بعد خمسين عاماً على تأسيسه، يسعى «منتدى دافوس» إلى إعادة ابتكار دوره، والتحوّل مِن مجرد ملتقى لنُخب الرأسمالية، إلى مركز لطرح اقتراحات حول «مستقبل الكوكب»، وسط جدلٍ لا ينفكّ يتّسع حول مستقبل الرأسمالية كنظام قابل للحياة بعد قرنين ونصف قرن من ظهورها. إشكاليةٌ تطرّقت إليها دورية «فورين أفيرز» (تصدر عن «مجلس العلاقات الخارجية») في عددها الأخير بعنوان «مستقبل الرأسمالية» لمناسبة انعقاد المنتدى، لتَخلص، في تقديمها، إلى أن هذا النظام سيمضي قُدُماً لكون «فوائده» تفوق «تكاليفه»!يريد منظّمو «السيرك الكبير» محوَ صورة «منتدى للأثرياء» الملازمة لهذا الحدث الذي يجمع، في شهر كانون الثاني/ يناير من كل عام، النخبة الاقتصادية والسياسية العالمية في منتجع تزلُّج في شرق سويسرا. لهذا السبب، تغيب قضايا العولمة والانفتاح الاقتصادي عن أجندة «المنتدى الاقتصادي العالمي» الذي يفتتح أعماله رسمياً صباح اليوم، لتحلّ محلّها عناوين أقلّ إشكالية مثل: المناخ والبيئة، وكيفية تحفيز الأعمال التجارية للاستثمار في مشاريع الطاقة النظيفة، وحماية البحار والغابات من التلوث، وتخليص الاقتصاد العالمي من أعباء الديون، وتحفيز النمو البنّاء في الاقتصادات، وبناء توافق دولي لتطوير «الثورة التقنية الرابعة»، وتفادي حدوث حرب تقنية.
بعد انقضاء نصف قرن على أول «ندوة أوروبية للإدارة» نظّمها الخبير الاقتصادي الألماني، كلاوس شفاب، ارتفع عدد سكان العالم من 3,7 إلى 7,7 مليارات نسمة. وازدادت حصّة الصين في إجمالي الناتج القومي العالمي بما لا يقلّ عن خمسة أضعاف، وانتهت الحرب الباردة من دون أن يبرز نظام عالمي جديد. يلخّص المؤرّخ بيار غروسر الوضع بالقول: «اعتباراً من عام 1989، صرنا عاجزين عن توصيف عالم المستقبل». هَدَف شفاب في عام 1971 إلى استخدام الندوة من أجل تحفيز الشركات الأوروبية على التفكير أكثر في أصحاب المصلحة بدلاً من أولئك الذين يملكون أسهمها، وتعريفها عن كثب على أساليب الإدارة الأميركية. 450 شخصاً حضروا المؤتمر الذي جمع في ذلك العام 25 ألف فرنك سويسري، أو ما قيمته 75 ألف دولار بأرقام اليوم، استخدمها شفاب كمنحة لـ«منتدى الإدارة الأوروبي»، الذي سيصبح لاحقاً، في عام 1987، «منتدى الاقتصاد العالمي»، الحدث السنوي المفضّل للبلوتوقراطيين، الذين ارتفع عددهم إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف شخصية تضمّ سياسيين ورجال أعمال ومشاهير وصحافيين، يسوّقون أجندة انعدام المساواة. لكن شفاب يحبّ أن يقول إن المنتدى «ملتزم بتحسين حالة العالم»، فيما «يتذبذب بين رغبتين: إحلال السلام والازدهار العالميين، والرغبة في أن يكون قريباً من المال والسلطة»، في وصف لأحد المواظبين على حضور «دافوس». ستشمل دورة النجوم لهذا العام الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ورؤساء شركات كبرى مثل «مايكروسوفت» و«غوغل» و«توتال»، ومجموعة من الناشطين المراهقين المدعوّين للمساعدة في «التطلّع إلى المستقبل».

«نهاية التاريخ»
تشير مجلة «إيكونومست» البريطانية إلى أن «عبقرية» شفاب طوّرت «المنتدى الاقتصادي العالمي» إلى «نوع من الحوار والتعاون بين القطاعين العام والخاص»، حتى بات بمثابةِ بديلٍ في عالم تنهار فيه الحوكمة. لكن عبقرية الخبير الاقتصادي، الذي دعا في مقال لـ«فورين أفيرز» إلى ضرورة إصلاح الرأسمالية، لا تتعدّى حدود أصحاب المصلحة. في مقدّمتها للملف المُقسّم على خمسة عناوين، تشير المجلة إلى أن الرأسمالية التي ظهرت في القرن الثامن عشر، وانطلقت في القرن التاسع عشر، وسيطرت على العالم في العشرين، «كانت ناجحة كنظام للاقتصاد السياسي». لكن أثبتت صفقة الثراء والحريات، على حساب الاستقرار والتقاليد والمجتمع، أنها جذابة إلى درجة أن المزيد من المجتمعات واصلت صنعها. يقول الثلاثي جوزيف ستيغليتز وتود تاكر وغابرييل زوكمان إن الرأسمالية في أزمة، لأن النخب البلوتوقراطية لجأت إلى النظام لحماية مصالحها وتخزين مواردها وتجويع الناس. الحلّ بالنسبة إلى هؤلاء: زيادة الضرائب بشكل كبير على الأثرياء. تذهب مياتا فانبوليه أبعد من ذلك، إذ تعتقد بأن الركود في الدخل، والثروة المركّزة، والكوارث البيئية التي تلوح في الأفق، تدلّ على أن الرأسمالية قد بلغت حدودها، وباتت هناك حاجة إلى نموذج اقتصادي جديد يقوم بتكييف المُثل الاشتراكية التقليدية مع الحقائق المعاصرة، ويعمل على تمكين الناس والمجتمعات بدلاً من الدولة. لكن جيري مولر يرى في ازدهار الاشتراكية الجديدة «مزحة»، وفي الضرائب على الأثرياء «كابوساً»... خلاصةُ ما تقدّم «(أننا) ما زلنا نحاول معرفة كيفية جني إيجابيات السوق، توازياً مع حماية أنفسنا من الجوانب السلبية»، ولأن «الفوائد تفوق التكاليف، لذلك ستستمرّ الرأسمالية في المضيّ قُدماً».
يمتلك 2153 شخصاً أموالاً تفوق ما يملكه أكثر من 60% من شعوب العالم


خلافاً للخلاصة أعلاه، سعى استطلاع «إدلمان ترست باروميتر»، الذي جمع على مدى عقدين آراء عشرات الآلاف من الأشخاص عن ثقتهم بالمؤسسات الحكومية الأساسية، إلى فهم كيف ينظر الناس إلى الرأسمالية. 56% من المستطلعة آراؤهم يعتقدون بأن ضررها أكبر من نفعها. استطلاعٌ بدأ في عام 2000 لاستكشاف صدق نظريات العالم السياسي فرنسيس فوكوياما الذي أعلن، بعد انهيار الشيوعية، أن الديموقراطية الرأسمالية الليبرالية أنهت الأيديولوجيات المنافسة لها، وصارت بالتالي تمثِّل «نهاية التاريخ».

التكاليف
يمتلك أصحاب المليارات في العالم، البالغ عددهم 2153، حالياً، أموالاً تفوق ما يملكه أكثر من 60% من شعوب العالم، وفق «أوكسفام» التي يؤكد مسؤولها في الهند، أميتابه باهار (يمثّل المنظمة في «منتدى دافوس»)، أنه «لا يمكن حلّ (مشكلة) الهوّة بين الأغنياء والفقراء من دون سياسات متعمّدة لمكافحة التفاوت. ينبغي على الحكومات أن تتأكد من أن الشركات والأغنياء يدفعون حصتهم العادلة من الضرائب». وتشدّد الناطقة باسم المنظمة في فرنسا، بولين لوكلير، في البيان نفسه، على أن «حالات التفاوت الفاضحة هي في قلب الانقسامات والنزاعات الاجتماعية في جميع أنحاء العالم... هي ليست أمراً حتمياً، (إنما) نتيجة سياسات تخفّض مشاركة الأكثر ثراءً في جهود التضامن عبر الضريبة، وتُضعف تمويل الخدمات العامة». وبحسب أرقام المنظمة غير الحكومية التي تستند منهجيتها إلى معطيات تنشرها مجلة «فوربز» ومصرف «كريدي سويس»، فإن ثروة الـ1% الأكثر ثراءً في العالم «تمثّل أكثر من ضعف مجموع الثروة» التي يملكها 6,9 مليارات نسمة هم الأقلّ ثراءً، أي 92% من سكان العالم.



«النقد الدولي»: المخاطر الجيوسياسية تظلّل النموّ
سيكون عام 2020 بمثابة «محاولة لإرساء الاستقرار»، بحسب «صندوق النقد الدولي» الذي خلص إلى القول إن «الزلّات السياسية في الوقت الراهن، ستُضعف مجدداً اقتصاداً عالمياً ضعيفاً في الأساس»، متوقعاً أن يعطي اتفاق المرحلة الأولى التجاري الموقع بين الولايات المتحدة والصين دفعاً للاقتصاد العالمي الذي سيسجِّل زيادة في النمو هذه السنة، غير أن الانتعاش سيكون «ضعيفاً» وهشّاً في ظلّ استمرار المخاطر الجيوسياسية.
وعكست توقّعات الصندوق للنموّ العالمي التي صدرت يوم أمس، تفاؤلاً أقلّ ممّا عكسته في تشرين الأول/ أكتوبر، مع خفض نِسب النمو إلى 3,3% لهذه السنة، و3,4% للسنة المقبلة، بتراجع 0,1 و0,2 نقطة مئوية على التوالي. غير أن هذه الأرقام تبقى أفضل من العام الماضي، حين انهار نموّ التجارة على وقع الحرب التجارية، مُسجّلاً +1% فقط، بعد تسجيله 3% عام 2018، ما أدى إلى تراجع النمو الاقتصادي العالمي إلى 2,9%، أدنى مستوياته منذ الأزمة المالية. لكن الصندوق حذّر، في المقابل، من «أنباء سيئة» تكبح هذا النمو، مصدرها الهند التي تعاني مِن تراجع الاستهلاك والاستثمارات، فضلاً عن عجز مالي وتأخير في تحقيق الإصلاحات. كذلك، فإن تصاعد التوتّر الجيوسياسي، ولا سيما بين الولايات المتحدة وإيران، قد يُحدث بلبلة في إمدادات النفط العالمية ويكبح الاستثمارات التجارية الضعيفة أساساً.
على صعيد التجارة الدولية، رأى «النقد الدولي» أن الهدنة التجارية التي أُقرت بين واشنطن وبكين لا تحلّ كلّ المشكلات. وفي هذا السياق، قالت المديرة العامة للصندوق، كريستالينا جورجييفا، خلال مداخلة أمام معهد «بيترسون» للاقتصاد الدولي: «تبقى أمور كثيرة يجب القيام بها لرأب الصدع بين القوتين الاقتصاديتين الرئيستين في العالم». وبمعزل عن هذين البلدين، فإن «النظام التجاري العالمي برمّته بحاجة إلى تحسين في العمق»، غير أن الصندوق حذّر من أن كلّ هذه التوقّعات «تبقى إلى حدٍّ بعيد رهن قدرة (القادة) على تفادي تصعيد جديد للتوتر التجاري الأميركي - الصيني... وتفادي بريكست من دون اتفاق، والتشعّبات الاقتصادية للاضطرابات الاجتماعية والتوترات الجيوسياسية»، وخلافاً لذلك، فإن الانتعاش قد يتلقّى صدمةً كبيرة.