في أعقاب الضربة الصاروخية فجر أمس، بات لدى الأميركيين، كما أصدقاء طهران، تصوّر واضح عن المرحلة التالية للردّ. الهجوم الصاروخي للحرس الثوري الإيراني على قاعدتَي أربيل وعين الأسد الأميركيتَين في العراق ليس سوى البداية لردّ فعل طهران وحلفائها على اغتيال الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ورفاقهما. ردٌّ سيحمل من اليوم عنوان: تغيّر الآليات وتبدّل قواعد الاشتباك. القرار بات يحظى بتبنّي مختلف حركات محور المقاومة، وأدنى مفاعيله إدخال الأميركيين دائرة النار في المرحلة الجديدة. على هذا الأساس، صاغ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الخطاب الذي تأخر ليخرج به على الأميركيين والإيرانيين والوسطاء، بعد أن «استوعب» الضربة وتراجع عن تهديده بلغة حاسمة بالردّ على الردّ إذا طاول مصالح أميركية.في طهران، إصرار على تأكيد هذه الفكرة، ظهر في تصريحات مختلف المسؤولين، من الرئيس إلى وزير الخارجية، وصولاً إلى المرشد علي خامنئي. ما كان معلوماً قبل الردّ الأوّلي بات مؤكداً بعده. والردّ الذي اتفق عليه مجلس الأمن القومي الإيراني في اجتماعه الشهير كان ينقسم إلى قسمين: الأول، ضربة سريعة مباشرة وعلنية تُظهر الحزم وتُحقّق الردع وتُرمّم المعنويات. والثاني، استغلال لحظة العدوان لصياغة هدف استراتيجي يقلب أهداف التصعيد الأميركي، وهو ما عبّر عنه محور المقاومة مجتمعاً بصراحة: «طرد الولايات المتحدة من المنطقة».
الردّ الثاني سيعني برنامجاً عملياً على مدى غير قصير تُعنى به حركات محور المقاومة كافة، وليس فقط في الساحة العراقية. وعلى الرغم من التعليقات التي صدرت من أكثر من مكان حول أهمية سابقة كسابقة قصف قاعدة أميركية بصواريخ باليستية على بعد مئات الكيلومترات لا يتمّ اعتراضها بالمنظومات الدفاعية المتطورة، وتصدّع الهيبة الأميركية، فإن ما تؤكده مؤشرات عديدة هو أن الانتقام بصورته الباردة سيبقى على الطاولة ويتحقق في إطار معركة الاستنزاف أو بموازاتها، كي لا يمرّ التصعيد بلا مشهد سقوط جنود أميركيين بشكل مؤلم. وهذه المعركة فُتحت من اليوم بوجه الوجود الأميركي العسكري في الإقليم، ما يعني أن مصالح واشنطن وحياة جنودها ستبقى تحت التهديد الأكيد.
وبحسب المعلومات الواردة من طهران، فإن القصف جرى بصورة صريحة، إذ أبلغ الإيرانيون بغداد بالهجوم، وتعمّد الحرس أن تكون الضربة ناجحة تقنياً لا معنوياً فقط عبر التركيز على نقاط حساسة في قاعدة «عين الأسد» وأربيل، فضلاً عن الجناح الذي يتواجد فيه الجنود الأميركيون والذي طاوله القصف أيضاً. وفيما لم يوضح رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة مارك ميلي، أمس، تفاصيل الأضرار تاركاً الأمر للتحقيق الاستخباري، أكد في إفادته أن الهجوم أصاب منطقة مأهولة وهدف إلى قتل عسكريين وإلحاق أضرار هيكلية وتدمير عربات ومعدات وطائرات، مشيراً إلى أن إجراءات الحماية منعت سقوط قتلى.
مصالح واشنطن وحياة جنودها ستبقى تحت التهديد الأكيد


وقد سارع الحرس الثوري إلى ردع الأميركيين عن الردّ، عبر بيانه الثاني الذي هدّد فيه بقصف إسرائيل والدول التي تستخدم أراضيها للاعتداء على إيران، وهو ما يُرى في طهران نجاحاً للموقف الإيراني الذي أجبر ترامب على التراجع عن تهديده بالردّ على الردّ، وفتحَ المجال لجولات استنزاف باردة. وعلى رغم التشكيك الإيراني في الإعلان الأميركي المتأخّر حول عدم سقوط إصابات في «عين الأسد»، فإن طهران لم تتبنَّ أيّ أرقام، وشدّدت عقب الهجوم على اعتبار أن الردّ انتقام أوّلي، فيما الردّ الأساسي يكون بدفع الولايات المتحدة إلى الخروج من المنطقة. وهو ما تبناه وزير الخارجية جواد ظريف، والرئيس حسن روحاني، الذي قال: «كلّ ذلك ليس كافياً... من وجهة نظري إن الردّ الأساسي على أميركا يجب أن تقوم به شعوب المنطقة»، مضيفاً: «لقد قطعوا يد عزيزنا سليماني... ينبغي الثأر له عبر قطع الطريق أمام أميركا في هذه المنطقة».
التعبير عن هذه السياسة التي ستظهر ترجمتها في الإقليم قريباً، تولّاه المرشد في خطابه أمس، بلغة صريحة وواضحة. إذ علّق خامنئي على الهجوم الصاروخي بالقول: «الليلة الماضية تمّ توجيه صفعة للأميركيين»، وأضاف: «هذه الضربة وحدها لا تكفي بل لا بدّ من أن يتواصل العمل لإخراج القوات الأميركية من المنطقة». ورأى أن «التدخل الأميركي جلب التوتر وعدم الاستقرار إلى المنطقة»، مشدداً على أن «شعوب وحكومات المنطقة المنتخبة لا تقبل بالوجود الأميركي».
إزاء الرسائل الإيرانية الواضحة، التي قُرئت سريعاً بقلق في واشنطن، فإن كلمة ترامب أتت لتقدّم عرضاً جديداً لطهران يغريها بالتراجع عن مقابلة التصعيد بالتصعيد، يتضمّن اقتراح التفاوض على كلّ الملفات بل والتعاون على أولويات كمحاربة «داعش»، وفق ما قال ترامب. الأخير يبدو أنه سيواجه مأزقاً من خلال أن ردّ إيران وحلفائها عبر التصعيد وتغيير آليات العمل سيأتي بنتائج عكسية تماماً لما رسم له من نتائج يجنيها من حملة التصعيد، بينما محور المقاومة يشدد على أن خياراته الجديدة غير مرشّحة للتراجع.