بوضوح قاطع وحاسم، قال الشعب الإيراني كلمته. الكلمة كانت أكثر من مدوّية. وهي إذ عَبَرت خطوط الطول والعرض، فقد وصلت تردّداتها الزلزالية إلى غير بقعة، وأصابت، أوّل ما أصابت، عواصم القرار ومعها سائر الدول المعنيّة بهذا الشكل أو ذاك بالعالم ومجرياته. فالجريمة الأميركية التي استهدفت الفريق قاسم سليماني ونائب رئيس «هيئة الحشد الشعبي» أبو مهدي المهندس وصحبهما كانت أكبر من أن تحتمله المنطقة، وحتى العالم المحاصَر بالعنف الأميركي المجنون.وضوح الكلمة الإيرانية، وجذريّتها، المعبَّر عنهما بشمولية الاحتضان الشعبي في عموم المدن الإيرانية، وبحر الناس الذين هبّوا للمشاركة في تشييع شهداء الغدر، لا يتركان المجال لأيّ التباس في الفهم. إنها واحدة من اللحظات التي تفرض على التاريخ أن يتقدّم بعيداً عن الإيقاع العادي ورتابته، وهي هنا لحظة إيرانية شبيهة بلحظة انتصار الثورة التي قادها الإمام الخميني، وستكون لها تداعيات تاريخية مماثلة إن لم يكن أكثر.
ستترك هذه الكلمة أثرها على العالم كلّه. لا شكّ في ذلك. ولعلّ حال الضياع والتخبّط وحتى البلبلة التي تلفّ دوائر القرار الأميركي ومراكزه، فضلاً عن عواصم العالم المهيمن، المترجَم بفقدانها، غير المألوف، للمبادرة، وتركيزها على محاولات اللملمة المباشرة أو غير المباشرة للجريمة الغادرة، تؤكد حقيقة هذا الأثر الذي لم تتبدَّ كامل معالمه بعد. ولم تفعل التصريحات الأميركية المُهدِّدة، والتي أعقبت العمل الإجرامي الموصوف، غير كشف هزال الوضع الذي تعيشه الإدارة، وضيق خياراتها إزاء تبعات فعلتها الإجرامية. ويمكن الإضافة أن الهدف الفعلي من رفع لغة التهديدات لم يتجاوز إثارة الغبار والتعمية على حال اللّايقين التي سيطرت على ترامب وفريقه، فضلاً عن محاولة حصر الردّ الإيراني ضمن أضيق الحدود الممكنة، خصوصاً أن الأميركيين، وهذا ما يزيد في بلبلتهم، غير متيقّنين، ولا يملكون خيال تصوّر ما ينتظرهم. لذلك، يمكن القول، وبثقة، إن ارتفاع منسوب التهديد الأميركي وكثرة مفرداته كانا المرآة الكاشفة لحجم القلق وحتى الندم الذي سكن رجالات الإدارة وفي مقدّمهم ترامب، وهو قلق لا قِبَل لأيّ منهم به، ووطأته تزداد مع مرور الساعات، بل إن هذه التهديدات التي تناوب عليها دونالد ترامب ووزير خارجيته وقادة البنتاغون أكدت عمق القلق وصميميّته، وزلزالية الأثر المرتقب الذي يتخوّفون منه، والذي من شأن وقوعه أن يقلب (أو يهيّئ لقلب) المعادلات ويجعلها على غير ما اعتدناه. وعندها، سيكون في وسعنا أن نرى ما إذا كنا أمام بداية تغيير جذري يعيد رسم وجه المنطقة الذي عرف استقراراً مديداً للمعادلات القهرية التي فرضتها نتائج الحرب العالمية الثانية على المنطقة، وكرّستها حقائق انكسار العالم مع انهيار الاتحاد السوفياتي، أم أننا أمام فورة غضب وتكاثف عاطفي فحسب. التجارب الإيرانية تقول إن علينا أن نصدّق أننا إزاء تحوّل سياسي واستراتيجي شبه قيامي لكامل المنطقة، ومعها باقي العالم الذي ملّ من العربدة الأميركية وضاق بها.
التجارب الإيرانية تقول إن علينا أن نصدّق أننا إزاء تحوّل سياسي واستراتيجي


التشييع المهيب للرجل الذي ملأ أسماع العالم لأكثر من عقدين، هو لحظة فاصلة في سياق، وقفزة في مسار. ومن أجل فهمه ومعرفة حقيقته، علينا أن نقاربه من خلال تاريخ ووقائع السياسات الأميركية التي استهدفت البلد منذ نجاحه في الثورة على النظام الشاهنشاهي التابع، وهي سياسات عنيفة لم توارب في الإعلان أن هدفها الإبادة السياسية وحتى المادية لعموم الشعب الإيراني. الولايات المتحدة تعيش لحظة إيرانية تفرض عليها حبس الأنفاس والاستغراق في الترقّب الممزوج بجملة من المخاوف الكابوسية. وهذا ما يمكن تسجيله بسهولة ما بعدها سهولة في آليات ودقائق عمل الإدارة السياسية والعسكرية في عاصمة الهيمنة الغربية. فاللحظة الإيرانية الراهنة هي لحظة مضيئة في ليل المنطقة. وهي بقدر ما تثقل على ترامب وصحبه، فإنها تبشّر بفتح ثغرة فعلية في جدار هيمنة وحشية أثقلت على جنوب العالم وأرهقته بسرقة موارده وقتل أهله. وبالتوازي، فإن هذه اللحظة الإيرانية كشفت وتكشف عن وجود قيادة سياسية صلبة وواعية ومسؤولة تعرف ماذا تريد، وعن شعب يملك إرادة نضالية كبيرة تقطع مع دعاية الأبواق عن شعب منهك يبحث عن إنقاذه قبل أن يخرّ صريعاً.
الحيادية النسبية التي طالما تعاطى بها العالم مع الحرب الأميركية المفتوحة على إيران، منذ نجاح ثورتها نهايات القرن الماضي، سقطت اليوم. وبات الجميع مضطراً إلى أخذ موقف ما، وهو ما تشي به المواقف والتصريحات في غير عاصمة وغير بلد، الأمر الذي سيسفر لا محالة عن انقلاب في موازين القوى. فالعالم الذي نعرفه لم يعد كذلك. إننا أمام لحظة تاريخية، وأمام مشهد معقّد لولادة عسيرة ولكنها حتمية. وأولى ثمار هذه الولادة، التي تأخرت قليلاً، نهاية عصر الهيمنة الأميركية الذي اتسم بالإجرام والدموية المنفلتة من كلّ عقال. الضيق الأميركي والغربي بإيران أساسه قرار هذه الدولة/ الأمّة التفلّت من براثن التبعية وشقّ مسار مغاير. وهذا ما حاوله القائد الفذّ جمال عبد الناصر وأُفشل فيه. ولعلّ جريمة إيران الأصلية، التي استدعت وتستدعي التضييق والحصار والحرب المتنوعة الأشكال والمستويات، أنها أعطت وتعطي المثال على إمكانية تحدّي الهيمنة الأميركية.
مشكلة العالم المعاصر الفعلية هي الولايات المتحدة الأميركية، أما دونالد ترامب فلا يعدو أن يكون ثمرة سيئة من ثمار هذه المشكلة التي قامت على الإبادة وتستمرّ بها. هذه المشكلة هي التي تجعل العالم أقلّ أمناً. واستمرار القبول بها يعني استمرار القتل والموت والجوع والفقر وغيرها من الجرائم المُرهقة لعموم الإنسانية. فما قامت به الولايات المتحدة في العراق، وما تقوم به في غير مكان من العالم هما، وبكلّ المقاييس، أعمال إجرامية. ويوماً بعد آخر، يتأكد، وبالملموس، أن الولايات المتحدة الأميركية منبع الإجرام وصانعته.
دونالد ترامب، لَملِم بقاياك وارحل!