«أنا قاسم سليماني، قائد فيلق صاحب الزمان السابع التابع لمحافظة كرمان. ولدت سنة 1958 في قرية قنات ملك من ضواحي كرمان، حائز شهادة البكالوريا، متزوج ولديّ ولدان، صبي وبنت. قبل الثورة، كنت موظفاً في مصلحة مياه كرمان. وبعد انتصار الثورة الإسلامية، التحقت بحرس الثورة في الأول من شهر أيار سنة 1980. مع اندلاع الحرب وهجوم النظام العراقي على مطارات البلاد، بقيت مدة أحرس الطائرات في مطار كرمان. بعد شهرين أو ثلاثة على اندلاع الحرب، انطلقنا إلى جبهات سوسنكرد ضمن القوات الأولى المرسَلة من كرمان والتي كان تعدادها 300 شخص تقريباً، بصفة قائد فصيل. في الأيام الأولى لالتحاقي بالجبهة، اعتقدت بأن العدو قادر على القيام بأيّ شيء، لكننا تمكّنا في أوّل هجوم لنا من إرغامه على التقهقر من جانب طريق سوسنكرد إلى الحميدية، وكبّدناه خسائر أيضاً. وقد أدّى هذا الأمر إلى زوال التصوّر الخاطئ عن العدو من ذهني».(الجنرال قاسم سليماني لمجلة «نداء الثورة» عام 1990)

بعد ثلاثين عاماً: هنا البوكمال
شاهده في البوكمال السورية. المعركة في ذروتها، القتال كان من مسافة قريبة، وهو لا يبعد عنه سوى أمتار معدودات. في الخط الأمامي على مشارف المدينة، كان الشهداء يتساقطون، وذلك المقاتل في حزب الله يوزّع عيناً على العدو وأخرى على «الحاج» غير المبالي بسلامته الشخصية. كانت البوكمال آخر المعارك الكبرى التي خطّط لها وقادها وحقق فيها انتصاراً كما اعتاد.

الخروج إلى الضوء
منذ انطلاق الحرب على «داعش»، لم يعد قاسم سليماني «قائد الظل» كما لقّبته الصحف الأميركية في 2009 بعيد تجنب العدوّ إياه في عملية اغتيال عماد مغنية في دمشق. كان الحضور العلني للواء الإيراني في الميدان، بالنسبة إلى القيادة في طهران، خروجاً إلى الضوء وإيذاناً بنقطة تحوّل في ملف الوجود والنفوذ خارج الحدود. بدأت صور «الحاج قاسم» تنتشر في كل مكان، بين المقاتلين على مختلف الجبهات، وفي غرف العمليات والاجتماعات. عشية انطلاق المعارك في العراق، استأنف علاقة ثانية له مع مطار بغداد (محطته الأخيرة ليل الخميس - الجمعة الماضي)، حيث بات يتردّد باستمرار بموازاة خطّ إمداد لوجستي وتسليحي يرافق تحرّكاته. سريعاً، جمع حلفاءه في المقاومة العراقية ضدّ الاحتلال الأميركي، وراح يوزّع بتنقلاته المكوكية جهده باتجاهين: وضع الخطط لاحتواء التمدد «الداعشي» ولإطلاق المعارك المضادة، وإعداد برامج التنظيم والتدريب للفصائل المقاتلة قيد الإنشاء تلبية لفتوى المرجعية، أو تلك التي تحتاج تأهيلاً لاستيعاب آلاف المتطوّعين الجدد، إلى أن أُطلقت عملية جرف الصخر باكورة المعارك الواسعة.

ليلبس جند أميركا الحفّاضات
تلك كانت حرباً للدفاع عن العراق ولحماية حدود إيران وأمنها في آن. لكن لم تكن أولى المعارك التي خاضها لتحقيق الهدفين معاً. فالمساهم الأول في تأسيس تشكيلات المقاومة العراقية ودعمها، عمل وفق استراتيجية إيرانية تعتبر غزو بغداد توطئة لاستهداف إيران، ما يحتّم إشعال حرب استنزاف تُبعثر حسابات الأميركي الآتي إلى أفغانستان والعراق ومهدّداً سوريا. كان لسليماني ما أراد، وفي تلك المرحلة، بدأ يتردّد اسم قائد «قوة القدس» في الحرس الثوري همساً، ويأخذ بالانتشار شيئاً فشيئاً. عادت يومها استراتيجية في السياسة الخارجية يقال إن واضعها هو الامام الخميني: يد تضرب العدو ويد تفاوضه في مكان آخر في الوقت ذاته. تَعزّز هذا المسار أخيراً في ظلّ ازدواجية الحضور الإيراني في المنطقة، بين ابتسامة جواد ظريف وعبوس قاسم سليماني.
يحفظ العاملون مع اللواء سليماني الكثير من القصص أيام المقاومة العراقية. هي شواهد على نبوغ عسكري وأمني تَسبّب، غير مرة، في إحباط لدى ضباط ودبلوماسيين أميركيين راوغهم في الأمن والعسكر وحتى السياسة. وتلك صفة يعزوها عارفون بالرجل إلى موهبة متأصلة فيه تحاكي «الدهاء الفارسي» على حدّ تعبير أحدهم. قال دونالد ترامب أمس: «سليماني أسقط آلاف الأميركيين بين قتيل وجريح على مدى فترة طويلة». لم ينكر «الجنرال» هذه التهمة ولا الخوف الذي زرعته عبواته بالجنود الأميركيين، وقال في إحدى المناسبات ساخراً من جبن الجنود الأميركيين: إن القوات الأميركية كانت بحاجة لإمدادات من «حفّاضات البالغين».

«الفارس النبيل»
بالنسبة إلى أعدائه في الغرب، هو الرجل الثاني في الجمهورية الإسلامية. لكنه ليس كذلك في طهران، لا في النفوذ ولا الرتب. مع هذا، فهو أخذ منذ عقد مكان البطل الأسطورة. هو للإيرانيين القوميين بطل رمز يشبه أبطال الأساطير في الإمبراطوريات الفارسية الغابرة. لكنه ليس هكذا بالنسبة إلى نفسه أو «إخوته» الإسلاميين في الحرس الثوري وإيران والمنطقة عموماً. يرى نفسه «جندياً للولاية على طريق القدس»، وفق أدبيات الثورة الإيرانية، ويراه رفاق سلاحه حاملاً لراية هذه الثورة خلف الحدود، ليحمي مصالح البلاد من جهة، ويبقي جذوة الثورة بنسختها الأممية مشتعلة. لقّبه المرشد علي خامنئي بـ«الشهيد الحي»، وراح الإيرانيون يرفعون صور المتحدّر من عائلة فقيرة في حياته، في ظاهرة نادرة كانت حكراً على الخميني وخامنئي وقادة الثورة الشهداء كمطهري وبهشتي وشمران وآخرين.
لدى العدو، هو «رجل المهمات القذرة» و«السفاح» و«المرعب»، حين يقاس الأمر بعبء سياسته على إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائها من مشيخات الخليج. لكن أحد رفاق درب «الجنرال» يكثّف صفاته بعبارة «الفارس النبيل»، ويشرح «أبوّة» القائد العسكري ولطفه وتواضعه مع الجميع، حتى الأعداء القادر على إبادتهم كان يسعى إلى التعامل الرحيم معهم بأقصى قدر ممكن. دبلوماسي مفاوض، متواضع ولبق وشهم وخلوق وقريب من القلب، لا يقطع الجسور مع أحد. نشيط ومبادر و«روحاني»، بحسب الصفات التي يسوقها الراوي، منبّهاً إلى أنها قد لا تخطر ببال من يراقب عمله العسكري عن بعد.

«هيبة» المحور... وقطبه
أن تكون قائداً لـ«قوة القدس» التي تبلورت بعد حرب الخليج من رحم الحرس الثوري لتنظّم نشاط «الحرس» الخارجي أيام «السلم»، فهذا يعني أنك مسؤول عن العمليات الخارجية في كلّ مكان خلف حدود إيران، وبالحدّ الأدنى في الإقليم أو «غرب آسيا» كما يسمّيها الإيرانيون. وهنا، منطقة تزدحم بالأعداء الذين يجب التعامل معهم: الولايات المتحدة ومعها القوات البريطانية والغربية عموماً، حلفاؤهم العرب، إسرائيل، الانفصاليون الكرد، وأخيراً التنظيمات التكفيرية. في الوقت عينه، تزدحم بالحلفاء والأصدقاء: سوريا، فصائل المقاومة في العراق ولبنان وفلسطين واليمن. كانت مهمة «سردار سليماني» (القائد بالفارسية) أو «الحجي أبو دعاء» كما يشير إليه العراقيون، نقل التكتيكات القتالية التي استخلصها الحرس الثوري من حرب السنوات الثماني مع العراق ودشّن على أساسها صناعته العسكرية. وهي تقوم على ملاحظة التفوق التسليحي للعدو ومواجهته بقتال غير تقليدي أو لا متناظر، عماده الأساس: الصواريخ مقابل التفوق الجوي.
باتت على عاتق سليماني، منذ استلامه منصبه أواخر التسعينات، مهمة نقل الخبرات والتسليح، وإنشاء بنية تحتية قتالية صلبة لدى الحلفاء. سنوات قليلة وسيتردّد مصطلح «محور المقاومة». محور، كان سليماني يشكّل البنّاء ومن ثم المركز له، حتى بات أحياناً يطلق عليه البعض «محور قاسم سليماني». حرب تموز كانت محطة أساسية لاختمار التجربة. بأمر من المرشد خامنئي، صار يستقلّ بجزء من دور سليماني في اتخاذ القرارات في شأن الملفات الإقليمية (لا سيما منها المرتبطة بحركات المقاومة ضد إسرائيل) حزبُ الله في لبنان، وتحديداً أمينُه العام السيد حسن نصر الله، وقائدُه العسكري آنذاك الشهيد عماد مغنية.
ماذا عن ما لم ينجزه؟ يجيب أحد أكثر المقرّبين منه في الآونة الأخيرة: «القدس!»


في غزة ولبنان، ولاحقاً في سوريا والعراق واليمن، أخذ ينظر الحلفاء إلى الرجل كسند لحركاتهم، حيث بصماته خلف كلّ إنجاز وانتصار. لم يقتصر دوره على العسكري فحسب، إذ كان شديد الاهتمام بالإعلام والسياسة لرفد الحركات الحليفة بـ«قوة ناعمة»، لا بالسلاح فحسب. ولعلّ أهم ما ساعده في تنويع خبراته، بل واختياره للمنصب، دوره في محافظة كرمان كقائد للحرس الثوري، وهي منطقة قريبة من الحدود الأفغانية، حيث عمل على مكافحة تهريب المخدرات. تلك المسؤولية سمحت له بتجربة العمل الأمني والإسهام في حماية الحدود، ليحقق خلالها نجاحات لافتة ضدّ عصابات تهريب الأفيون.
تَكَرّس سليماني، مع تمدّد محور المقاومة، اللاعب السياسي والعسكري الأول في المنطقة، إلى جانب أذرع أخرى لطهران تجتمع في المجلس الأعلى للأمن القومي، وتخوض نقاشاً حادّاً تتنوع فيه الآراء، وقد لا تكون الكلمة الفصل فيه لسليماني، كما يظن البعض. يستفيض قيادي في محور المقاومة، على اطلاع على آلية صنع القرار بين أطراف المحور، في شرح حجم خسارة سليماني. سريعاً يستدرك: «الحرس مؤسسة»، وإذا ما أردنا تشخيص الخسارة الأكبر باغتيال «الجنرال»، فهي ضرب «هيبة المحور» التي أسهم في صنعها طوال السنوات، أمام العدو وأمام الحليف، بالكثير مما أَنجز. ماذا عما لم ينجزه؟ يجيب أحد أكثر المقرّبين منه في الآونة الأخيرة لـ«الأخبار»: «القدس. كانت برنامجه العملي وحلمه وهاجساً شخصياً يلهج به في الجلسات الخاصة!».