لندن | بالطبع، ليس جيريمي كوربن لينين آخر، ولا حزب «العمّال» البريطاني المعارض بلاشفة إنكليز. لكن «مانيفستو» الحزب الذي يخوض على أساسه جولة الانتخابات العامّة المبكرة في 12 كانون الأول/ ديسمبر، بدا راديكالياً أكثر ممّا تسمح به حدود «الديموقراطية» الغربية. «مانيفستو» وصفته الصحف اليمينية بأنه الأكثر يسارية في تاريخ المملكة، بينما شنّت قيادات سياسية وإعلامية حملةً تستهدف كوربن: «تلميذ كارل ماركس»، الذي يشكّل «خطراً على الأمن القومي»، و«صديق للإرهابيين»، و«متسامح مع العداء للسامية»... ومنذ بداية الأسبوع الجاري، تعرّض الزعيم العمّالي لتقريع علني شديد من الرئيس السابق للاستخبارات البريطانية، السير ريتشارد ديرلوف، وزعيم يمينيي «العمّال» توني بلير، وكبير حاخامات اليهود إفرام ميرفيس، وأندرو نيل محرّر صحيفة «صنداي تايمز» اليمينية.كوربن، الذي يحاول جاهداً تجنّب المواجهات الحادّة، اعتذر مكتبه عن عدم إجراء عشرات المقابلات الصحافية للتقليل من فرص توظيفها للتهجُّم عليه، ومارس كل الليونة الممكنة مع أعدائه المعلَنين داخل حزب «العمّال» (تيّار بلير)، كما اللوبي الصهيوني الفاعل في المملكة، مقدماً لهما التنازل تلو الآخر، إلا أن ذلك لم يزد هؤلاء إلا صلفاً. فضلاً عن ذلك، بدا واضحاً وجود تململ من قِبَل كبار القادة الأمنيين في الجيش والاستخبارات البريطانية تجاه الاحتمالات المتزايدة لتولّي كوربن المنصب التنفيذي الأرفع، على رغم أن الاستطلاعات في مجملها تعطي، لغاية الآن، غالبية مريحة لحزب المحافظين الحاكم. كذلك، فإن أوساط قيادات الكنيسة الأنجليكانية الرسمية، وكبار الموظفين في الإدارات العامة، وحتى القصر الملكي نفسه، لا يكنّون الكثير من الحب للرجل، بينما وجدوا في برنامجه الانتخابي مبرِّراً لإظهار مخالبهم ضد مصالح الطبقة العاملة. غير أنه لن يكون في مقدور هؤلاء إيقاف شعبية كوربن المتصاعدة، من دون تدخّل الناخِبين الفاعلين الأثقل وزناً على الساحة البريطانية، أي كبار الرأسماليين ومصالح المال والأعمال، والسفارة الأميركية.
بدا مانيفستو «حزب العمّال» راديكالياً أكثر ممّا تسمح به حدود الديموقراطية الغربية


في غضون ذلك، كان قادة الأحزاب الثلاثة الكبرى: كوربن، ورئيس حكومة تصريف الأعمال بوريس جونسون، وزعيمة «حزب الليبراليين الأحرار» جو سوينسون، قد اجتمعوا كلّاً على حدة بقيادات شركات الأعمال ومصالح المال في حي السيتي. سوينسون طلبت دعمَ هؤلاء على أساس برنامجها لوقف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، بوصفه يمثّل خطراً داهماً على الاقتصاد الكلِّي للمملكة، فيما وعد جونسون منحهم كل ما يحلمون به من إعفاءات ضريبية وتخفيضات في الرسوم وتسهيلات تشريعية في ما يتعلق بالبيئة وحقوق العمّال، بعد تحرّر لندن المفترَض من هيمنة بروكسل. كوربن، في المقابل، لم يخفِ سعيه إلى تأميم المرافق العامة والخدمات، كالكهرباء والمياه والنقل البرّي، مدافعاً كذلك عن سياسات صديقة لـ«العمّال» في الضرائب والأرباح والتشريعات. ووعد أيضاً بتوفير بنية تحتية أفضل، وعلاقة تجارية مستقرة مع أوروبا، كما تبنّى برنامجاً طموحاً للاستثمار في مجال الطاقة النظيفة، لتحويل بريطانيا إلى دولة متقدِّمة في المجال البيئي عن بقية الأوروبيين. لكن دهاقنة المال ليسوا مغفّلين؛ فهُمْ قرأوا «مانيفستو» «العمّال» الجديد، ويعلمون بأن وصول كوربن إلى «10 داونينغ ستريت» يعني: رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 18%، وإلغاء العقود الصفرية (تدفع الأجور عند الحاجة إلى عمل الأجراء فقط)، وتأسيس صناديق تشارك في الربح بين المالكين والعمّال، مع نقل ملكية لا تقل عن 10% من أسهم الشركات إلى عمّالها، وتطبيق أسبوع عمل من أربعة أيام في نهاية العقد المقبل، بالإضافة إلى حماية حقوق المستأجرين وبناء مجمعات الإسكان العامة، إلى جانب برنامجه لتأميم مرافق الخدمات العامة والبريد والإقراض التجاري، وتوفير شبكة «فايبر» متقدِّمة مجاناً للجميع. بعض هذه الوعود، وليس كلّها، كان كفيلاً بإسقاط حكومات في أوقات سابقة، فكيف وهي الآن كما «ربيع أحمر» يعيد رسم اقتصاد رأسمالي كاقتصادٍ مختلط، كاسراً توازن القوة المختلّ بشدّة على حساب العمّال والفئات غير المحظية، لمصلحة الأكثر ثراءً في بريطانيا - ألف من هؤلاء يملكون ثروة تقدّرها «صنداي تايمز» بـ772 مليار جنيه استرليني، بزيادة 48 مليار جنيه عن العام الماضي، متفوّقين في ذلك على ثروة الدولة البريطانية نفسها (700 مليار جنيه). وقد حصل كلّ ذلك في الوقت الذي بلغت فيه مستويات أجور العمّال أدنى مستوياتها منذ 60 عاماً، وبينما يقبع أكثر من 15 مليون مواطن تحت خط الفقر.
يبقى، بالطبع، الناخب الأكبر، أي السفارة الأميركية، التي تعادي كوربن منهجياً وتاريخياً ومبدئياً بالتشارك مع سفارات الكيان العبري - لوجستياً واستخبارياً، والسعودي - مالياً. بالطبع، لا يحبّذ الأميركيون وصول حكومات «عمّالية» إلى السلطة في بلد حليف كبريطانيا، وهم يفضّلون خطة جونسون لـ«بريكست». من جهة أخرى، تخشى واشنطن أن تنعكس مواقف كوربن المعتدلة في شأن حقوق الفلسطينيين، وتأييده المُعلَن لحلّ الدولتين، ومعاداته للحروب التي تموّلها الدول الخليجية في الإقليم، وانفتاحه على علاقات إيجابية مع طهران، وتحفظاته على الموازنات المتورّمة للانفاق العسكري، والعلاقة بـ«حلف شمال الأطلسي»، وتقاربه المحتمل مع روسيا وغيرها، على سياسات واشنطن للهيمنة. وأضاف كوربن مزيداً من الملح على العداوة مع واشنطن، عبر تضمين الـ«مانيفستو» تعهّداً بمنع خصخصة «درّة التاج» البريطاني، وآخر معاقل القطاع العام، أي هيئة الصحة العامة، ودعمها مالياً لتقديم جميع خدماتها مجاناً، حتى من دون رسوم رمزية أو الحاجة إلى متعهّدين من القطاع الخاص لسدّ جهات النقص، مع الإعداد لشن مواجهة كبرى مع احتكارات شركة الدواء العالمية، لا سيّما الأميركية منها. هذا التعهد، إلى جانب سعي كوربن إلى فرض ضرائب على أرباح الشركات الأميركية العاملة في بريطانيا، مثل «أمازون» و«ستاربكس»، والتي لا تدفع فعلياً أيّ ضرائب وفق الترتيب الحالي المعمول به، يعني أن مصالح القوّة العظمى تتعرّض للخطر، وهي مصالح تشنّ من أجلها الحروب.
أيام قليلة تفصل المملكة عن انتخابات قد تسفر، نظرياً، عن حلول «ربيع أحمر» بريطاني طال انتظاره؛ لكن الجميع، وأوّلهم كوربن، ليس لديهم أوهام في شأن حجم تآمر شركاء الحلف الآثم الداخليين والخارجيين لمنع تغيير لا يتناسب مع مصالح المنظومة، ليبقى الرهان على صحوة للطبقة العاملة، تعيد ترتيب أوراق السلطة عبر إيصال «العمّال» إلى السلطة. صحوةٌ لطالما كانت استثناءً عابراً في التاريخ البريطاني الحديث الذي لا يزال ملكياً.