بين نارَي العملية العسكرية في شمال سوريا، والتدابير التي تستهدف وجودهم السياسي، يواجه الأكراد في تركيا تحدّيات لطالما كانت ماثلة أمامهم منذ أكثر من 100 عام. ومثّل تغيير قانون البلديات عام 2016 نقطة تحول في العلاقة بين الدولة والبلديات، حيث أمكن للدولة إقالة رؤساء البلديات، الكردية تحديداً، وتعيين موالين للسلطة بدلاً منهم. إقالة محمد زيريغ، رئيس بلدية جزره، قبل أيام، كانت آخر التدابير التي اتخذتها وزارة الداخلية من أجل تجريد حزب «الشعوب الديموقراطي» (الكردي) من البلديات التي فاز بها في الانتخابات البلدية الأخيرة في 31 آذار/ مارس الماضي، والتي لم تمرّ عليها بالكاد ستة أشهر. وينضمّ رئيس بلدية جزره بذلك إلى البلديات «الكردية» التي عُزل رؤساؤها، وبلغت حتى الآن 24 بلدية كبيرة وصغيرة. من هذه البلديات ديار بكر وماردين وفان ونصيبين وجزره ويوكسيك أوفا. وتمّ تعيين إما المحافظ أو القائمقام رئيساً بالوكالة للبلديات المذكورة، وتستمرّ مدة الرئيس بالوكالة إلى حين إجراء انتخابات بلدية جديدة، أي إنه رسمياً بالوكالة، فيما هو عملياً دائم. والتهمة لرؤساء البلديات المعزولة هي «الترويج للإرهاب»، أي حزب «العمّال الكردستاني»، بل التعاون معه. والتهمة هذه تستوجب السجن لعدة سنوات.المشكلة التي تطرحها مسألة التعيينات أنها تضع شخصاً معيّناً بدلاً من شخص تمّ انتخابه شعبياً ورسمياً. وهذا الإجراء لم تلجأ إليه حكومة حزب «العدالة والتنمية» حديثاً، بل هو يعود إلى حقبة البلديات الموجودة قبل الانتخابات الأخيرة، بعدما تمّ تعديل قانون البلديات عام 2016 حتى يصبح بالإمكان إقالة رؤساء البلديات المعارضة لـ«العدالة والتنمية»، على إثر محاولة الانقلاب العسكري. وطالت إجراءات العزل تحديداً أكبر بلدية كردية في تركيا وهي ديار بكر. وكانت الغاية الأساسية من ذلك أن الشخص المعيّن يمكنه من خلال موقعه أن يقدّم خدمات مباشرة للناس تُحسّب له، فيزيد هذا من شعبية «العدالة والتنمية» في أيّ انتخابات مقبلة، سواء كانت بلدية أم نيابية أم رئاسية. ولكن التجربة الماضية فشلت في أماكن، منها ديار بكر، ونجحت في أخرى حيث تمكّن الحزب الكردي في الانتخابات البلدية الأخيرة من أن يفوز من جديد بمعظم البلديات التي عُزل منها. الآن، يكرّر «العدالة والتنمية» التجربة نفسها، ولكن الفارق أنها أكبر وأوسع من ذي قبل، بعدما تلقّى الحزب خسارة قاسية في البلديات الكبرى في تركيا، كما في معظم المناطق الكردية. وقد ربط رئيس الجمهورية، رجب طيب إردوغان، هذه التدابير بأنها «لمنع إرسال المال إلى جبال قنديل» (حيث قيادة حزب «العمّال الكردستاني» في شمال شرق العراق).
عمليات عزل رؤساء البلديات (بالتركية تسمّى «قيّوم»، أي وضع قائم بالوكالة) دفعت برئيس حزب «الشعوب الديموقراطي»، سزائي تيميللي، إلى الدعوة لانتخابات بلدية ونيابية جديدة. وقال إن انتخابات جديدة هي فرصة للمعارضة لهدم سلطة تحالف حزب «العدالة والتنمية» وحزب «الحركة القومية»، والتي فقدت مشروعيتها. ويركز تيميللي، في حوار مع صحيفة «يني أوزغور بوليتيكا» الكردية، على أن العداء للأكراد في تركيا يتمثل في خطوات عملية ثلاث:
1- العزل في إيمرالي: أي منع اللقاءات من أيّ نوع كانت مع زعيم «العمّال الكردستاني» عبد الله أوجلان، المعتقل في الجزيرة الواقعة في بحر مرمرة. وفي هذا الإطار، انتقد تيميللي القضاء، قائلاً إن منع المقابلات عن أوجلان مخالف لأبسط حقوق أيّ معتقل.
2- عزل رؤساء البلديات وتعيين بدلاء لهم. وهذا ليس فقط استيلاء على مبنى البلدية، بل اغتصاب لإرادة الشعب الذي انتخبهم. واعتبار الشعب التركي غير موجود هو مظهر من مظاهر إفلاس السلطة، في ظلّ التجارب الناجحة في البلديات التي عزل رؤساؤها.
3- أما التعبير الثالث عن العداء للأكراد، فهو الحرب في سوريا والعملية العسكرية التركية ضد الأكراد هناك، والتي ليس لها أي مشروعية، وتهدف إلى منع أيّ حلّ ديموقراطي في سوريا.
ويقول تيميللي إن استمرار هذه الإجراءات غير محتمل. ولا بدّ، من وجهة نظره، من الذهاب إلى انتخابات مبكرة سينتصر فيها حتماً تحالف المعارضة. ويقول تيميللي إن الشعب غير راضٍ عن سلطة «العدالة والتنمية» التي تراجع التأييد لها إلى 35 %. ويعتبر أن على الناس أن يختاروا بين جمهورية العزل أو الجمهورية الديموقراطية، نافياً الإشاعات عن تراجع شعبية الحزب الكردي بقوله إن الاستطلاعات المختلفة تعطي الحزب معدّل 13%، وهو أقوى من أي وقت مضى.
الرئيسة السابقة لحزب «الشعوب الديموقراطي»، فيغين يوكسيك، اعتُقلت في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، بعد أربعة أشهر من محاولة الانقلاب العسكري، وهي موجودة حتى الآن مع نواب آخرين من الحزب في سجن كانديرا بتهمة دعم «العمّال الكردستاني». وصفت يوكسيك ما يجري بأنه عمليات إبادة ضدّ الوجود الكردي في تركيا. كذلك، فإن ما يجري في شمال سوريا من قِبَل «عصابات الجيش الحر والسلفيين»، المدعومة من تركيا، ليس مُوجّهاً ضد الأكراد والسريان والأرمن والعرب فقط، بل أيضاً ضد الشعوب في تركيا، التي تدفع فاتورة هذه الحرب، وفق ما تقول. وترفض يوكسيك فكرة الأخوة التركية – الكردية قائلة: «إن لم يكن هناك مساواة، فلا يمكن أن يكون هناك أخوّة. وليس من أخوة مع من يريق دم الأكراد ويأكل حقوقهم».
ويرى الكاتب فايسي صاري غوزين أن الرئيس التركي يدرك أن الوضع في طريقه إلى الانفجار، ومن أجل تدارك ذلك، هو يفكر دائماً في انتخابات مبكرة. لكنه عملياً يهيّئ الوضع أولاً لفوضى دموية، وثانياً لضرب حزب «الشعوب الديموقراطي» باعتقال العشرات من نوابه. ويعتبر غوزين أن إردوغان يعتقد أنه كسب وقتاً من خلال لقائه أخيراً مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض، ولكن عندما تنتهي مهلة الوقت الذي يكسبه، فإن الطريق ستكون مفتوحة أمام روسيا لتدخل إدلب، مع ما سيلي ذلك من موجة هجرة إلى تركيا. وفي ظلّ هذا الوضع، لن يكون بإمكان تركيا البقاء في شرق الفرات، وبالتالي سينفجر حزب «العدالة والتنمية» من داخله. وعليه، يخيّر إردوغان تركيا بين انتخابات مبكرة في ظلّ الفوضى والحرب، واستمرار «الدكتاتورية بلا انتخابات»، الأمر الذي يعني قمع الأحزاب وعرقلة ظهور أحزاب جديدة.
ويرى عرفان أقتان في صحيفة «غازيتيه دوار»، من جهته، أن إردوغان يعمل من خلال التضييق على حزب «الشعوب الديموقراطي» على إخراجه من اللعبة السياسية، ودفعه إلى عدم المشاركة في الانتخابات. ويعتبر أقتان أن لعبة إردوغان لن يكتب لها النجاح، لأن التمثيل السياسي يمنح الأكراد فرصاً كثيرة للظهور على الرأي العام. وينقل عن نائب كردي قوله: «عندما لا يكون هناك نائب كردي فإن الناس يتردّدون حتى في الإدلاء بتصريحات صحافية».