الانتقادات الصادرة عن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حول أداء «الناتو»، جدّدت النقاش في شأن معنى «الأطلسية» اليوم بالنسبة إلى الدول الأوروبية، وأيضاً في شأن مستقبل الحلف. ففي مقابلة مع أسبوعية «الإيكونوميست» بعنوان: «أوروبا: الناتو يدخل في حالة الموت السريري» في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر، اعتبر ماكرون أن «الناتو» بات في مرحلة «الموت الدماغي»، منتقداً غياب «التنسيق في صناعة القرارات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والشركاء الآخرين في الحلف»، لافتاً إلى «أننا نشهد عدواناً تشنّه دولة في الحلف، وهي تركيا، في منطقة لدينا فيها مصالح مهُدّدة، من دون أيّ تنسيق معنا». حتى لو لم يُعبّر هذا التغيّر في اللهجة الفرنسية، بالضرورة، عن انعطافة بـ 180 درجة في مقاربة باريس للعلاقات عبر الأطلسي، فإنه يؤشّر إلى توجّه واقعي يرى في بناء سياسة دفاعية أوروبية ضرورة حيوية في السياق الحالي. تأسيس «الحلف الأطلسي» عام 1949، ومدّ المظلّة النووية الأميركية فوق أوروبا، عزّزا شعور الدول الأوروبية بالأمن. حصلت واشنطن على تفويض من الحلفاء لاعتماد سياسات تخدم، نظرياً على الأقلّ، مصالحها المشتركة مع حلفائها، لكن تزايد الصراعات الدولية والتهديدات اللامتوازية في السنوات الأخيرة يدفع إلى إعادة النظر في أهمية دور «الناتو»، المتمحور حصراً حول روسيا. ولا شك في أن وصول دونالد ترامب إلى السلطة ساهم في إضعاف النظام الدولي التعدّدي الموروث من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي شلّ الأدوات التي دَرَج على استخدامها لإدارة الأزمات الدولية. فعندما كان مرشحاً للانتخابات الرئاسية في آذار/ مارس 2016، أعلن ترامب أن «الناتو» أصبح منتهي الصلاحية، وطالب بتقاسم الأعباء الاستراتيجية مع الأوروبيين عبر زيادة مساهماتهم المالية في الحلف، وكرّر الموقف نفسه عام 2017. غير أن واشنطن زادت، في السنة التالية، مساهماتها في الحلف بضغط من «البنتاغون»، وهي ذكّرت، قبل أيام من انعقاد اجتماع وزراء دفاع دول «الناتو» في 14 و15 شباط/ فبراير 2018، بتمسّكها بـ«الأطلسي» وبحرصها على الحفاظ على الأسواق الأوروبية لصناعاتها العسكرية.
هذه التصريحات الأميركية المتناقضة أدت إلى إعادة اكتشاف الواقع من قِبَل فرنسا. فهي بعد انضمامها إلى القيادة المشتركة للحلف عام 2008، أضحت تعتبر أن الاتحاد الأوروبي ينبغي أن يُطوّر قدراته الدفاعية الذاتية، لأن أيّ حماية خارجية لا يمكن أن تكون أبدية. ولكن إعادة إحياء مشروع الدفاع الأوروبي تثير انقساماً عميقاً بين دول الاتحاد: ألمانيا متردّدة بسبب تقليد سياسي يميل إلى معارضة تطوير القدرات العسكرية، وإلى الاكتفاء بالقدرات المتوفرة للدفاع عن أراضي البلدان الأوروبية. لم تتردّد المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركيل، في الردّ على كلام ماكرون عن «الناتو»، والذي رأت فيه تسرّعاً وعشوائية، ما يعكس التمايز في المواقف حيال الحليف الأميركي.
الولايات المتحدة نجحت في السنوات الماضية في استخدام «الناتو» بفعالية، لا لأهداف استراتيجية، ولكن لتعزيز العلاقات الزبائنية على المستويات السياسية والاقتصادية والمالية بينها وبين دول أوروبية صغيرة كرومانيا وبلغاريا وبولونيا ودول البلطيق، وهي دول تريد جميعها الحفاظ على أوثق العلاقات مع واشنطن. ولا شك في أن حذر عدة دول أوروبية مما تراه نزوعاً إلى الهيمنة في السياسة الخارجية الفرنسية، منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، يضعف محاولات بناء سياسة خارجية ودفاعية أوروبية مشتركة. وتأتي صعوبة تعريف مصالح مشتركة بين الدول الأعضاء في الاتحاد لتُشكّل عقبة إضافية أمام هذه المحاولات. غير أن خطاب ماكرون قد يعيد طرح السؤال حول الشكل المؤسّساتي المطلوب للبناء الأوروبي: هل يشكل الاتحاد تجمعاً لدول ذات سيادة تمتلك كل منها دبلوماسيّتها وسياستها الدفاعية الوطنية، أم هو فدرالية لديها حكومة مشتركة تتمتع بصلاحيات سيادية؟