صوّب الرئيس الفرنسي على الولايات المتحدة، محذّراً شركاءه الأوروبيين من مواصلة التعويل عليها من بوابة «حلف شمالي الأطلسي» الذي يعيش حالة «موت دماغي». لم يأتِ «هجوم» إيمانويل ماكرون على حليفة بلاده إلا في سياق دعوته المتجددة إلى «أوروبا دفاعية»، مستقلّة استراتيجياً وعسكرياً، وتسعى إلى التقارب مع روسيا، وتكون، في الوقت ذاته، متيقّظة من صعود الصين.«ما نعيشه حالياً هو الموت الدماغي لحلف شمالي الأطلسي». لعلّ الخلاصة هذه التي توصّل إليها الرئيس الفرنسي، قد تشكّل نظرياً بداية «اشتباك» بين دول «الناتو» الأوروبية. انتقد ماكرون قلّة التنسيق بين الولايات المتحدة وأوروبا، فضلاً عن السلوك الأحادي الذي اعتمدته تركيا، الحليفة الأطلسية، في سوريا. ربّما يكون لتصريحات ماكرون العالية النبرة، والتي تساءل فيها عن مصير الحلف نفسه، وقعٌ كبير قبل شهر من قمة يعقدها «الأطلسي» في لندن الشهر المقبل. لكن ردود فعل «الحلفاء» لم تنتظر طويلاً؛ إذ سارع وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى انتهاز الفرصة للتذكير بضرورة «تقاسم عبء» تمويل الحلف الذي «عفا عليه الزمن»، وفق وصف الرئيس الأميركي. أما المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، فأكّدت أنها لا تشاطر الرئيس الفرنسي رؤيته «الراديكالية» بخصوص «الأطلسي». وحدها روسيا رحّبت بما وصفته بالتصريحات «الصادقة» للرئيس الفرنسي، والتي «تعكس الجوهر. إنه تعريف دقيق للواقع الحالي لحلف شمالي الأطلسي»، بحسب الناطقة باسم وزارة الخارجية، ماريا زاخاروفا.
ومن ضمن المحاور العديدة في سياق مقابلة أجرتها معه مجلة «ذي إيكونوميست» البريطانية، توقّف ماكرون طويلاً عند العدوان التركي في شمال شرق سوريا، مشيراً إلى غياب أيّ تنسيق في ما يتّصل بقرار واشنطن الاستراتيجي مع شركائها في الحلف. ما حصل، بالنسبة إلى الرئيس الفرنسي، «يطرح مشكلة كبيرة للحلف الأطلسي». تساءل عن الغايات الاستراتيجية لهذا الحلف في معرض دعوته المكرّرة إلى «تعزيز» أوروبا الدفاعية. تساءل أيضاً، بصورة خاصة، عن مصير المادة الخامسة من معاهدة الحلف التي تنصّ على تضامن عسكري بين أعضائه في حال تعرّض أحدهم لهجوم، مبدياً أسفه لـ«التضحية بشركائنا على الأرض الذين حاربوا داعش، قوات سوريا الديموقراطية». ولأن «الأطلسي» كنظام «لا يضبط أعضاءه»، فإن «اللحظة التي يشعر فيها أحد الأعضاء بأن من حقه المضيّ في طريقه، فهو يقوم بذلك. وهذا ما حصل». من هنا، يخلص ماكرون إلى ضرورة قيام أوروبا الدفاعية التي «تمنح نفسها استقلالية استراتيجية، وفي المجال العسكري» من جهة، ومن جهة أخرى، «تعيد فتح حوار استراتيجي مع روسيا، حوار خالٍ من أيّ سذاجة».
اغتنم ماكرون المقابلة للتحذير من ثلاثة مخاطر كبرى محدقة بأوروبا، أولها أن «أوروبا نسيت أنها مجموعة، وتصوّرت نفسها سوقاً هدفها النهائي التوسع». والخطر الثاني، بنظره، هو الولايات المتحدة التي تبقى «شريكنا الكبير»، غير أنها تتجه بأنظارها إلى مكان آخر نحو «الصين والقارة الأميركية»، محذّراً من وجود رئيس أميركي «للمرة الأولى، لا يشاطر فكرة المشروع الأوروبي، والسياسة الأميركية تنفصل عن هذا المشروع». وأخيراً، يكمن الخطر الثالث في تزامن إعادة تركيب توازن العالم مع صعود الصين منذ 15 عاماً، ما «يهدّد» بقيام عالم ذي قطبين، وتالياً يهمّش أوروبا، الأمر الذي يتطلّب «يقظة أوروبية» في مواجهة «الخطر الكبير بأن نختفي عن الخريطة الجيوسياسية مستقبلاً، أو أقلّه ألّا نعود أسياد مصيرنا».
وعن العلاقة مع روسيا التي باشر السعي إلى تقارب في العلاقات معها، رأى أن لا خيار لها سوى إقامة «شراكة» مع أوروبا، معتبراً أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لا ينوي أن يصبح «تابعاً للصين»، وأن النموذج الروسي الحالي القائم على «العسكرة المفرطة ومضاعفة النزاعات... غير مستدام». وإذ لفت إلى أن بوتين «قام بتطوير مشروع معادٍ لأوروبا بفعل طابعه المحافظ»، استدرك بالقول: «لا أرى كيف لا يمكن لمشروعه على المدى البعيد أن يكون مشروع شراكة مع أوروبا». فروسيا، بحسب ماكرون، ستجد صعوبة في «إعادة بناء قوة» بمفردها، و«سيكون الأمر غاية في الصعوبة، حتى لو أننا أعطيناها دفعاً بأخطائنا».