قد تكون من المرّات النادرة التي لا تقول فيها وسائل الإعلام الإسرائيلية إن إيران تقف وراء التصعيد الذي يشهده قطاع غزة. وليس صدفة أن لا يكون تفادي هذا الاتهام حكراً على وسيلة واحدة. فلا هو اقتصر على صحيفة «هآرتس» التي رأت أنه «ليس كل شيء يحصل في الشرق الأوسط هو جزء من المؤامرة الإيرانية العالمية»، ولا على صحيفة «إسرائيل اليوم» التي رأت أن «الاعتقاد بأن (حركة) الجهاد تعمل بتوجيهٍ إيراني مباشر هو تبسيطي جداً». بالمجمل، يمكن أن يكون الأمر نابعاً من تبرير لعدم التصعيد العسكري الواسع والقول للجمهور الإسرائيلي إن القضية موضعية واعتباراتها محلية.
بعيداً عن التفسيرات البديلة التي قدَّمها المعلّقون الإسرائيليون، لم يكن صدفة أن تمتنع إسرائيل عن التصعيد الواسع في ظل التحديات والاستحقاقات الداخلية والخارجية التي تواجهها. ويمكن تلمّس جانبٍ من الإطار العام لتفسير التصعيد المضبوط الذي شهدته الجبهة مع قطاع غزة، عبر الموقف الذي أدلى به رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو خلال افتتاحية جلسة الحكومة، أمس، عندما أوضح أن إسرائيل تمرّ بـ«فترة أمنية حساسة جداً، وقابلة للانفجار على جبهات عديدة. في الشرق، في الشمال وفي الجنوب». وإذ أوضح استراتيجية إسرائيل في مواجهة أي صواريخ تنطلق من قطاع غزة، قال: «من ناحيتنا، حماس تتحمل المسؤولية عن كل هجوم». ومع أن نتنياهو أكد أنه لا يريد التحدث عن تفاصيل الخطط الإسرائيلية، إلا أن ركيزتها تقوم على الضغط على حركة «حماس» بهدف دفعها إلى كبح عمليات إطلاق الصواريخ.
من الواضح أن مجموعة عوامل تقاطع بعضها مع بعض في بلورة السياسة الإسرائيلية الحالية إزاء قطاع غزة، من ضمنها تقدّم أولوية مواجهة التهديد الإيراني والجبهة الشمالية على أي تهديد آخر. في الموازاة، ترى تل أبيب أن أي خيار عدواني واسع ضد القطاع سوف يؤدي إلى تبعات أمنية تطال العمق الإسرائيلي ويورّطها في مستنقع لا تملك فيه الإجابة عن أسئلة اليوم الذي يلي. وكل ذلك سيكون أيضاً على حساب مواجهة التهديدات الأكثر خطورة. نتيجة لذلك، تعتمد إسرائيل مقابل القطاع سياسة احتواء كبديل من خيارات أخرى تقدّر أنها أكثر كلفة على المستويين السياسي والأمني. وفي السياق نفسه، يأتي موقف رئيس مجلس الأمن القومي السابق اللواء غيورا ايلاند، الذي اعتبر أن سياسة الرد الإسرائيلي مستمرة منذ 13 عاماً، وحكومة إسرائيل تُفضّل الوضع الحالي على بدائل أخرى اتجاه غزة، لافتاً إلى أن الحكومة لا تستطيع أن تصرّح علناً بأنها تفضّل خيار الوضع الحالي لأنه يمس بسكان الجنوب. ويعود ذلك إلى كون الحل الجذري في مواجهة قطاع غزة، كما يرى العديد من المراقبين الإسرائيليين، يكمن في خيار من اثنين: إما الذهاب إلى تسوية تؤدي إلى وقفٍ طويل الأمد لإطلاق النار، لكن ذلك يتطلب أثماناً غير بسيطة من الطرفين، أو معركة واسعة إلى جانبها أيضاً أثمان ومخاطر لا يُستهان بها. وما بينهما تنتهج تل أبيب خياراً على قاعدة أقل الأضرار.
مع ذلك، يحضر عامل إضافي ظرفي في اعتبارات القيادة الإسرائيلية، يتمثل في الوضع السياسي الداخلي والحكومي. وفي مواجهة هذا الواقع، يسعى نتنياهو إلى محاولة تهدئة جبهة الجنوب تفادياً لانعكاساتها السلبية، لكونها تُظهر فشل استراتيجيته في مواجهة القطاع. في المقابل، يسعى رئيس حزب «أزرق أبيض» بني غانتس إلى استغلال الوضع الأمني المتوتر في القطاع بهدف تسجيل نقاط لمصلحته في مواجهة منافسه نتنياهو. ولا يعني ذلك بالضرورة أنه لا يحاول تقديم بديل يرى أنه يمكن من خلاله تحقيق الهدوء في غلاف القطاع. لذلك، دعا إلى توجيه ضربات شديدة إلى قطاع غزة والعودة إلى سياسة الاغتيالات التي تهدف إلى الضغط على المستوى القيادي لحل المشكلة التي يواجهها جنوب إسرائيل. وأكد غانتس أن «حكومة برئاستي لن تتحمل تهديداً على سكان الجنوب، ولن تقبل أي مسّ بسيادتها، وسنعيد الردع بأي ثمن، حتى لو اضطررنا إلى قتل من يقودون إلى التصعيد». مع ذلك، يجب التذكير بأن من لا يتحمّل مسؤوليات اتخاذ القرار يسهل عليه إطلاق المواقف النارية، بينما تتسع دائرة الاعتبارات لديه عندما يتبوّأ منصب رئاسة الحكومة ويجد نفسه أمام تزاحم الأولويات التي تفرض التفاضل بينها، خصوصاً إذا ما ردّت المقاومة في قطاع غزة على التصعيد الإسرائيلي بمستوى يدفع مؤسسة القرار السياسي والأمني إلى اكتشاف أن سياستها العدوانية ستورّط إسرائيل في مواجهة عسكرية واسعة في الوقت الذي تواجه تهديدات أشد خطورة على الأمن القومي الإسرائيلي على جبهتها الشمالية والشرقية.
يسعى غانتس لاستغلال الوضع الأمني في القطاع لتسجيل نقاط ضد نتنياهو


على المستوى الحكومي، يدفع القلق من إجراء انتخابات عامة للمرة الثالثة خلال أقل من سنة، الأحزاب والقيادات الإسرائيلية إلى محاولة استنفاد الخيارات لتفادي هذا السيناريو. ويبدو أن هذا الاحتمال تعزّز مع سقوط خيار حكومة أقلية تستند إلى الأصوات العربية. كذلك، يبدو أن غانتس عمد فقط إلى محاولة إقلاق حزب «الليكود» بهذه الورقة، مدركاً الصعوبات التي تعترض طريق هذا الخيار، مع أنه من الناحية الرقمية يمكن تشكيل حكومة تؤدي إلى إطاحة نتنياهو من منصب رئاسة الحكومة.
بانتظار كلمة القضاء في توجيه لائحة الاتهام لنتنياهو، وإنقاذ إسرائيل من الانتخابات للمرة الثالثة خلال أقل من سنة، يجري العمل على بديل آخر الآن، يتمثل في محاولة إقناع الأحزاب الحريدية بتقديم تنازلات تؤدي إلى انضمام رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» أفيغدور ليبرمان إلى كتلة اليمين لتشكيل حكومة برئاسة نتنياهو. يأتي ذلك فيما يعمل غانتس على مسار موازٍ لتشكيل حكومة أقلية تستند إلى تأييد أحزاب يمينية. بالنسبة إلى الخيار الأول، أعلن رئيس حزب «ديغل هتوراة» ــ أحد الحزبين اللذين يشكلان كتلة «يهدوت هتوراة» الحريدية ــ موشيه غفني، أنه «لن تكون هناك أي تنازلات في المواضيع الدينية المبدئية بالنسبة إلينا، لا بالتذاكي ولا بأي طريقة أخرى». وبالنسبة إلى الخيار الثاني، حاول غانتس إغراء قادة حزب «اليمين الجديد»، نفتالي بينيت وأييليت شاكيد، بالانضمام إلى حكومة برئاسته مقابل حصولهما على حقيبتين وزاريتين رفيعتين، هما الأمن والقضاء. ويبدو أن هذا الاقتراح يهدف إلى محاولة تفكيك كتلة اليمين، التي يتمسك بها نتنياهو، وحتى لو بدا أنه غير واقعي، ويشير أيضاً إلى رفض غانتس التحالف مع اليمين المتطرّف، (البيت اليهدوي – الاتحاد القومي) لذلك لم يشملهم العرض. مع ذلك، فإن احتمال تشكيل حكومة بهذه التركيبة مستبعد، ويعود ذلك إلى الهوة التي تفصل بين مواقف العديد من كتلها، وخاصة أنها تضم حزب «ميرتس».