بدأت معركة عزل الرئيس الأميركي دونالد ترامب الحقيقية، أمس، مع انتقال الآلية المخصّصة لهذا الإجراء إلى مرحلة جديدة أكثر خطورة، تمثلت في تصويت الديموقراطيين في مجلس النواب على مشروع قانون يحوّل جلسات الاستماع إلى العلن، في إطار التحقيق في الفضيحة الأوكرانية. عناوين تفصيلية كثيرة تظهر هنا، تبدأ من التحدّي العلني لحجج الرئيس وتبريراته ولا تنتهي بإحراجه أمام الرأي العام، خصوصاً إذا ما أُخذت في الاعتبار شخصيته المثيرة للجدل ومواقفه المتناقضة والقابلة للدحض أو التأويل من قبل الخصم والحليف. فور التصويت، ندّد ترامب عبر موقع «تويتر» بـ«أكبر حملة مطاردة سياسية في التاريخ الأميركي»، بينما حرصت الرئيسة الديموقراطية لمجلس النواب، نانسي بيلوسي، على تأكيد أن «ديموقراطيتنا على المحك». بمعنى أكثر دقة وتعبيراً عمّا ذهب إليه كل من ترامب وبيلوسي ـــ كلّ وفق وجهة نظره ــ فقد أسّس مجلس النواب ذو الغالبية الديموقراطية لخطوة تاريخية تضع مصير الرئيس على المحك، عبر اعتماده قراراً يرسي إطاراً رسمياً لعمليات التحقيق، بتأييد 232 نائباً مقابل معارضة 196، وذلك بعد أكثر من عشرين عاماً على آخر عملية تصويت افتتحت بها آلية عزل ضد الرئيس بيل كلينتون. وبينما برّرت بيلوسي السبب وراء نقل الجلسات إلى العلن، حتى يتمكن الأميركيون من «تكوين رأيهم الخاص بشأن الوقائع»، فقد ردّ البيت الأبيض مُعلناً أن «هذا غير عادل وغير دستوري ومعاد لأميركا في جوهره»، فيما ندّد النواب الجمهوريون بـ«مهزلة» تهدف إلى إسقاط نتائج انتخابات 2016.
ما هو مؤكد أن الأمور في الولايات المتحدة تتجه إلى نوع جديد من الكباش السياسي، في الوقت الذي يستبسل فيه الديموقراطيون في استخدام كل ما يمكن أن يساعد في إزاحة ترامب من البيت الأبيض، بينما يحارب الرئيس وحلفاؤه بكل ما لديهم من وسائل. فبعد سنوات على التشكيك في سلوك ترامب من زوايا عديدة، يسعى الديموقراطيون الآن إلى تقديم حالة أكثر ثباتاً، تتركز على محاولات ترامب إجبار الحكومة الأوكرانية على التحقيق في أعمال خصمه الرئاسي المحتمل جو بايدن. المزايا التي يعتمد عليها الديموقراطيون ضمن هذه المقاربة، هي أنها مدعّمة بشهادات أدلى بها مسؤولون سابقون وحاليون في الإدارة، خلال جلسات الاستماع المُغلقة. ومن هذا المنطلق، يتركّز جزء من استراتيجيتهم على مواجهة حجّة الجمهوريين بأن عملية العزل كانت حتى الآن خدعة سرية. فقد اختار البيت الأبيض ومناصروه اللجوء إلى استراتيجية دفاع يتفادون من خلالها التطرّق إلى أعمال الرئيس، عبر التركيز على تشويه عملية الإقالة، معتبرين أنها غير شرعية وغير عادلة.
ندّد ترامب بـ«أكبر حملة مطاردة سياسية في التاريخ الأميركي»


في البداية، ستجري جلسات الاستماع أمام لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس النواب، بقيادة آدام شيف. وعندما تنتهي هذه اللجنة من عملها، ستقوم بإرسال الدلائل التي توصلت إليها إلى لجنة القضاء، التي قد تُجري جلسات استماع إضافية قبل إصدار محضر اتهام ضد الرئيس. وكما حصل خلال جلسات الاستماع الخاصة بمحاولة عزل كلينتون، سيُسمح للجمهوريين باستدعاء شهودهم، فقط في حال قبل رئيس لجنة الاستخبارات بذلك. وإذا رفض، فإن هذا الأمر سيخضع لتصويت اللجنة كاملة. كذلك، سيُسمح للرئيس ومحاميه بالمشاركة وطرح الأسئلة على الشهود، ولكن ليس قبل انتقال الإجراءات إلى لجنة القضاء. ولعل أبرز خروج عن السوابق هو أحد الأحكام الذي يتعلق باللجنة القضائية، والذي ينص على أنه إذا رفض الرئيس «بشكل غير قانوني» تقديم الشهود أو الدلائل للجان التحقيق، فإن رئيس اللجنة يملك السلطة التقديرية لفرض الحل المناسب لذلك، بما فيها رفض طلبات محدّدة من ترامب أو محاميه لاستدعاء أو استجواب الشهود. وهذا ما جعل البيت الأبيض يندّد بما اعتبره «احتيالاً»، في حين ردّت بيلوسي، مؤكدة أن «القواعد عادلة». من جهة أخرى، تبدو مثل هذه القواعد حاجة أساسية، لا سيّما أن المخاطر كبيرة جداً، والتهم الموجهة لترامب خطيرة جداً. فقد كان الديموقراطيون قد استمعوا إلى حوالى 12دبلوماسياً ومستشاراً للبيت الأبيض في جلسات مغلقة، وتفيد المعلومات التي تسرّبت عن هذه الجلسات بأن سفراء ومسؤولين كباراً أدلوا بإفادات مُقلقة، بعضها يدين البيت الأبيض. كذلك، كشفوا الجهود التي بذلها لأشهر مقرّبون من الرئيس، بمن فيهم محاميه الشخصي رودي جولياني، على هامش القنوات الدبلوماسية الرسمية، لدفع كييف إلى تقديم معلومات مُحرجة بشأن بايدن.
بالرغم من كل ما تقدّم تجدر الإشارة إلى نقطة أساسية، وهي أن الدستور الأميركي لا يعطي سوى الخطوط العريضة لعزل الرئيس. لذا، اكتفى بتكليف مجلس النواب بتوجيه الاتهام إليه، ومنح مجلس الشيوخ صلاحية محاكمته. ونظراً إلى سيطرة الأغلبية الجمهورية على مجلس الشيوخ الذي تعود له كلمة الفصل، تبدو إقالة الرئيس غير مرجّحة في المرحلة الحالية. ولكن يبدو أن كل ما يسبق هذه الخطوة سيحصل بالفعل، على الرغم من أن الجدول الزمني لذلك يبقى غامضاً. لذا، يعمل الديموقراطيون على عدم التورّط في معارك قضائية ربطاً بكل وثيقة أو شاهد عدائي كسباً للوقت، ولا سيما أن عدداً من الشهود كانوا قد حوّلوا طلب استدعائهم للمثول أمام لجنة الاستخبارات، إلى القضاء.