مسيونس | «نونكا ماس»، أو «لن تتكرّر أبداً» بالعربية. هكذا حوّل الأرجنتينيون شعارهم الانتخابي إلى أغنية نصرهم في احتفالية «مار ديل بلاتا» بعد السقوط المدوّي لليمين الحاكم، وفوز تحالف ألبرتو فرنانديز وكريستينا كيرشنر برئاسة الأرجنتين من الجولة الأولى. لم يتأثّر الناخبون الأرجنتينيون بحملات التهويل التي قادتها كبرى المؤسسات الإعلامية وجهات اقتصادية حذّرت من خطر عودة اليسار إلى الحكم في بيونس آيريس. حملاتٌ ترافقت مع انهيار مفاجئ في العملة، في الوقت الذي كانت فيه استطلاعات الرأي تؤكد تقدّم فرنانديز، وتراجع حظوظ الرئيس المنتهية ولايته، ماوريسيو ماكري. لكن هذه الضغوط الثقيلة لم تثنِ الأرجنتينيين عن قرارهم الحاسم: «نونكا ماس».القرار الشعبي الأرجنتيني جاء على وقع الأزمات المتتالية التي عاشتها البلاد منذ تسلّم ماكري الرئاسة في كانون الأول/ ديسمبر 2015. فالرئيس اليميني اعتمد سياسات اقتصادية متهوّرة، كما وصفها خبراء اقتصاديون، حيث عمَد إلى تخصيص كبرى مؤسسات الدولة، وفَتَح أسواق بلاده على مصراعيها، ما سمح للشركات المحلية والعالمية بنقل أموالها إلى الخارج. كما لجأ إلى استدانة 50 مليار دولار من «البنك الدولي» بفوائد مرهقة لمنع التضخّم. إلا أن ذلك لم يمنع زيادة التضخم بسرعة قياسية، إذ وصل إلى 54.5% الشهر الماضي، متسبّباً بتواصل انهيار الطبقة الوسطى، فيما ارتفعت نسبة الفقر المدقع إلى 38%.
يدرك فرنانديز أن إرث اليمين ثقيل جداً، وأنه سيواجه مع شريكته كيرشنر تحدّيات صعبة، أبرزها إعادة جدولة الدين العام (المفترض تسديده قبل نهاية عام 2021)، وضخّ الحياة في السوق الأرجنتينية، بالإضافة إلى إعداد سلسلة الرتب والرواتب لتتماشى مع التضخم وغلاء الأسعار، عدا عن العلاقات الدولية التي دمّرها ماكري على مدى سنوات حكمه، من خلال انتهاج التبعية المطلقة للولايات المتحدة الأميركية، واتباع سياسات خاطئة مع المحيط الإقليمي، وخصوصاً في الملف الفنزويلي.
يقول المقربون من فرنانديز إن الرئيس العتيد تعمّد، في خطابه الأول بعد صدور النتيجة، إهداء فوزه إلى الزعيم البرازيلي المعتقل، لويس إيناسيو دا سيلفا، في دلالة على التغييرات السياسية التي ستنتهجها بلاده بعد تولّيه السلطة في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر المقبل. وتُعدّ تلك إشارةً أيضاً إلى اتّباع الرئيس المُنتخب نهجَ دا سيلفا الاقتصادي، الذي حقّق إنجازات كبيرة في مكافحة الفقر وتعزيز التنمية. كذلك، يشكّل الملف البرازيلي عقدةً إضافية في ظلّ وجود الرئيس اليميني، جايير بولسُنارو، والذي يجاهر بالعداء لفرنانديز، لدرجة أنه رفض توجيه تهنئة لنظيره الأرجنتيني، معرباً عن حزنه الشديد لهزيمة حليفه، ماوريسيو ماكري. أما نائبة الرئيس، كريستينا كيرشنر، العائدة من تجربة دورتين رئاسيتين، فقد ركّزت على الملف الاقتصادي الحساس، وحذرت ماكري من التخلي عن مسؤولياته في المقبل من الأيام لتفادي الأسوأ. تحذيرٌ لاقى تجاوباً من قِبَل البنك المركزي، الذي أصدر تعميماً يفيد بأن لكلّ مواطن أرجنتيني الحق في شراء مئتي دولار فقط شهرياً للحفاظ على العملة الأجنبية في البلاد. كما وعدت الرئيسة السابقة الأرجنتينيين بالعمل مع فرنانديز على إزاحة الكارثة عن كاهل البلاد.
يدرك فرنانديز أن إرث اليمين ثقيل جداً، وأنه سيواجه مع شريكته كيرشنر تحدّيات صعبة


لم تكن التجربة اليمينية المتعثّرة في الأرجنتين هي الوحيدة التي أثارت الأزمات الاقتصادية والسياسية في أميركا اللاتينية. ففي تشيلي، التي ودّعت قبل أربع سنوات رئيستها السابقة ميشالي باشيليت بالورود والدموع، خرجت اليوم في تظاهرات مليونية لتتلو فعل الندامة على استقدام اليمين الذي أطاح كل إنجازات باشيليت، وأفقر التشيليين بعد سنوات من الازدهار والبحبوحة. المثال نفسه تعيشه الإكوادور التي هتفت باسم رئيسها اليساري السابق، رافاييل كوريا، وثارت ضدّ سياسات الإفقار التي يمارسها لينين مورينو، ورفع الدعم الحكومي عن الاحتياجات الأساسية للطبقات الفقيرة.
أما اليسار، فقد حقّق في أسبوع واحد فقط ثلاثة انتصارات مهمة على الصعيد اللاتيني، أوّلها انتصار الرئيس البوليفي، إيفو موراليس، على تكتّل اليمين الذي خاض الانتخابات بإمكانات ضخمة، وثانيها فوز ألبرتو فرنانديز على ماكينة الإعلام ومراكز النفوذ الداخلية والخارجية في الأرجنتين، وفي الأوروغواي حيث يتّجه المرشح اليساري، دانيال مارتنيز، إلى الفوز بالرئاسة في الجولة الثانية التي ستجرى في الرابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، بعد حصوله على 40% من الأصوات في الجولة الأولى التي جرت أول من أمس.
في المحصلة، يُجمع الخبراء على أن اليمين اللاتيني يعيش أكبر أزماته في الحكم، فقد فشل هذا التيار في الاستفادة من أخطاء خصومه اليساريين، وسارع إلى اتباع النماذج المتوحّشة في الاقتصاد والتبعية في السياسة الخارجية، ما أفقد بلاده قرارها السيادي، وجعلها تدفع ثمن مواقف لا تتوافق مع مصالح شعوبها. تجربةٌ قد تبعد حلفاء واشنطن عن الحكم لعقود، وتعيد خصومها إلى الواجهة، بعدما بات واضحاً أن مصلحة الفقراء والمتعَبين في أميركا اللاتينية لا يمكن أن تلتقي مع المصالح الاستعمارية للولايات المتحدة.



فرنانديز يطوي «الصفحة المشينة»
في المهرجان الانتخابي الأخير له يوم الخميس الماضي، قال ألبرتو فرنانديز: «مع تصويت الأحد، علينا أن نبدأ طيّ الصفحة المشينة التي بدأت كتابتها في 10 كانون الأول/ ديسمبر 2015»، يوم فوز ماوريسيو ماكري. واقعاً، تحقّق فوز اليسار الأرجنتيني في الانتخابات التمهيدية في آب/ أغسطس الماضي، وهي انتخابات يتفرّد بها النظام الأرجنتيني، إذ لا صفة رسمية لنتائجها سوى أنها ترسم صورةً لتوزّع القوى المتنافسة. ويوم الأحد، فاز فرنانديز من الدورة الأولى في مواجهة ماكري، جامعاً 48.1% من الأصوات، في مقابل 40.3% لخصمه، بحسب ما بيّنت النتائج شبه النهائية. وللفوز من الدورة الأولى، كان على فرنانديز الحصول على أكثر من 45% من الأصوات، أو على أكثر من 40% شرط أن يكون الفارق بينه وبين المرشح الذي يحلّ وراءه أكثر من عشر نقاط مئوية. وأمام الآلاف من أنصاره، ألقى فرنانديز كلمة بعد فوزه، قال فيها: «لن تكون الأيام القادمة سهلة. ما يهمّنا هو وقف معاناة الأرجنتينيين». وفي ظلّ المستوى الذي تدهورت إليه الأوضاع المعيشية خلال الأشهر الأخيرة في الأرجنتين، كشف الرئيس المُنتخب عن خطة لدعم المواد الغذائية الأساسية التي تضاعفت أسعارها، واعداً بالقضاء على أسعار الفائدة المرتفعة التي تدفعها المصارف على السندات، وتخصيصها لبرامج المساعدات الاجتماعية.
(الأخبار)