الحوارات التي أُجريت في البرلمان ومجلس الشيوخ الفرنسيين في الـ7 والـ 8 من تشرين الأول/ أكتوبر، بطلب من الرئيس إيمانويل ماكرون حول سياسة الهجرة، أثارت تساؤلات عديدة في أوساط المراقبين. تُنظَّم تلك الحوارات سنوياً حول موضوع الهجرة، لكن مقاربة الرئيس هذه المرة، معطوفةً على تصريحاته الإشكالية، ساهمت في اندراج حزبه ضمن انزياح الحوار العام في فرنسا حول قضايا من هذا النوع نحو أطروحات اليمين المتطرف. وقد ثبت لمرات عدة فشل الاستراتيجية الانتخابية المشار إليها أساساً في اجتذاب المزيد من الأصوات لِمَن يعتمدها.تمحور النقاش الذي دار خلال اليومين المذكورين حول الدعوات إلى إعادة التفكير في كيفية مراجعة الإطار النظري لقانون اللجوء والهجرة، والذي حكم المقاربات الفرنسية له سابقاً. ومن بين المقترحات التي تم تداولها تلك المتضمِّنة تخفيضاً لعدد طالبي اللجوء، عبر تحديد حصة خاصة بكل بلد يأتي منه هؤلاء، أو على قاعدة المهن التي يمارسونها، وإدخال «تحسينات» على التشريعات المتعلقة بعمليات الإبعاد، ووضع خطة لمكافحة «الغش» في ما يتصل بالمساعدة الطبية الرسمية. وسيقوم البرلمان، خلال مناقشة مشروع قانون الميزانية المالية لعام 2020، بالتطرق إلى الخطة المذكورة.
طرْح موضوعات كالكلفة الاجتماعية المفترضة للهجرة، أو استغلال الخدمات الصحية، يشكل استعارة لأطروحات اليمين المتطرف ومفرداته. وكان ماكرون نفسه قد أوضح، في أيلول/ سبتمبر الماضي، الوجهة الجديدة المتبعة، عندما أعلن نيته «معالجة هذه القضايا بشكل مباشر، ومن منظور الطبقات الشعبية، لأن البورجوازيين لا يعانون من مشكلة الهجرة، فهي ليست جزءاً من واقعهم المَعيش، على عكس الطبقات الشعبية». هذا الخطاب يتناقض مع ذلك الذي تبنّاه الرجل حين كان مرشحاً للرئاسة في بداية عام 2017، عندما رحّب بسياسة المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، التي استقبلت اللاجئين، و«أنقذت شرف أوروبا» وفقاً لتعبيره. وقد دفع كلامه الأخير المثير للجدل 15 نائباً من حزبه إلى توقيع عريضة في 17 أيلول، ترفض «التناول الهستيري المناقض للوقائع لمسألة الهجرة»، وتطالب بـ«إدارة أكثر إنسانية لها».
مسألة الهجرة وما تحتويه من شحنة أيديولوجية ما زالت عرضة للاستغلال الديماغوجي


الحقيقة هي أن الرئيس الفرنسي، الذي دعا في زمن ليس ببعيد أمام البرلمان الأوروبي إلى معاقبة الدول الأعضاء في الاتحاد التي ترفض استقبال المهاجرين غير الشرعيين، ضحّى بصدقيته على مذبح مصالحه الانتخابية. فمع اقتراب الانتخابات البلدية، وتراجع معدّلات شعبيته، يحاول ماكرون توظيف هذه المسألة في سياق يرى فيه 63% من الفرنسيين أن هناك «الكثير من الأجانب في فرنسا»، وأن «المهاجرين لا يبذلون جهوداً كافية للاندماج»، وأن «للإسلام دوراً في ذلك»، بحسب دراسة أعدّها مركز «إيبسوس ــــ سوبرا ستيريا»، بطلب من يومية «لوموند» التي نشرتها في 18 أيلول. لكن الأرقام التي كشفتها المحافظات توضح أنه في سنة 2018 «جرى تسجيل 122743 طلب لجوء، أي نسبة أعلى بـ 22% من 2017، أما نسبة الموافقات عليها فبقيت نفسها، وهي 27% من قِبَل الهيئة الفرنسية لحماية اللاجئين (أوفبرا)، و36% إذا أُخذت بعين الحسبان قرارات المحكمة الوطنية الخاصة بحق اللجوء». معظم الطلبات التي تمت الموافقة عليها تتعلق بلجوء لأسباب اقتصادية لا سياسية، وأصحابها قادمون من بلدان كألبانيا، المرشحة لدخول الاتحاد الأوروبي منذ 2009.
على الرغم من الوقائع العنيدة، فإن مسألة الهجرة وما تحتويه من شحنة أيديولوجية ما زالت عرضة للاستغلال الديماغوجي للتعمية على المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الفعلية. غير أن هذا الخطاب حول الهجرة، والذي يتيح لِمَن يروّجه حضوراً أكبر في الفضاء الإعلامي، كثيراً ما تكون مفاعيله السياسية معاكِسة لهدفه المعلَن، وهو سحب البساط من تحت أقدام اليمين المتطرف. فاستخدام خطاب هذا الأخير من أجل ضمان الفوز بالانتخابات يعزّز من قوته كما اتّضح من تجربة الرئيس السابق نيكولا ساركوزي. وفي حالة ماكرون، فإن المتاجرة بمسألة الهجرة في الظروف السياسية الحالية مناورةٌ غايتها تجنب الخوض في النقاش الصعب حول مشروعه لإصلاح نظام التقاعد. تظاهرات شهر أيلول التي ضمّت قطاعات اجتماعية مختلفة ضدّ ذلك المشروع، وضرورة دخول الحكومة الفرنسية في مرحلة تشاور مع الشركاء الاجتماعيين تمتدّ حتى شهر كانون الأول/ ديسمبر القادم، تنذران ببداية فترة تجاذب طويلة وعصيبة لن تنجح الضوضاء المفتعلة حول مسألة الهجرة في حجبها.