عَكَس اجتماع «اللجنة الاستشارية للتنسيق والتعاون» بين وزيرَي الدفاع والخارجية الفرنسيين ونظيرَيهما الروسيين في 19 آب/ أغسطس في موسكو، تحوّلاً في توجهات الدبلوماسية الفرنسية. فبعد التدهور الذي شهدته العلاقات الثنائية إثر ضمّ جزيرة القرم، والموقف الفاتر الذي عبّرت عنه فرنسا تجاه مشروع أنبوب غاز «السيل الشمالي 2»، تبرز إرادة واضحة بالتفاعل الإيجابي مع موسكو، نتيجة للتحدّيات الجديدة التي تواجهها السياسة الخارجية الفرنسية. يرى كريستيان لوكين، أستاذ العلوم السياسية ومدير الأبحاث الأوروبية في «مركز الدراسات الدولية» التابع لـ«معهد العلوم السياسية» في باريس، أن الرئيس الفرنسي يحتاج اليوم إلى حوار هادئ مع موسكو لمعالجة قضايا الجوار الأوروبي في أوكرانيا وجورجيا والقوقاز، معتبراً أن فرنسا، التي أيّدت فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا، وكان لها دور مركزي في مسار مينسك الذي تبدو حصيلته حتى اليوم شديدة التواضع، ترغب حالياً في تواصل مستمر لنزع فتيل التوتر، ومحاولة إيجاد مخارج للأزمات. ويشير لوكين إلى أن «فرنسا تحتاج الى روسيا للتعامل مع الملف السوري»، وخصوصاً أنها تسعى إلى العودة كلاعب مؤثر إلى الساحة الشرق أوسطية بعد مرحلة من «التيه» لدبلوماسيّتها في الإقليم. وبحسب الخبير الفرنسي، فإن «ماكرون يستلهم المقاربة الديغولية، عبر اعتماد سياسة غير خاضعة للولايات المتحدة، ودبلوماسية واقعية تستند إلى مبادئ النظرية الواقعية في العلاقات الدولية. يفترض هذا الأمر حواراً معمّقاً مع الصين وروسيا والهند بمعزل عن الاعتبارات الأيديولوجية».
الرئيس الفرنسي يحتاج إلى حوار هادئ مع موسكو لمعالجة قضايا الجوار الأوروبي

وفي سياق تتمايز فيه السياسات الخارجية للدول الأوروبية إلى درجة التناقض أحياناً، ويتأكد فيه أن أوروبا ليست لاعباً جيوسياسياً أو عسكرياً، فإن التقارب مع موسكو، من دون التخلي عن التضامن الغربي، سيعزز من الاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا. ريمي بورجو، الخبير الاقتصادي والباحث في «معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية»، يصف، من جهته، الاتحاد الأوروبي بأنه منتدى يظهر فيه مدى تمايز وتناقض الاستراتيجيات المتبعة من قِبَل مختلف أعضائه، لافتاً إلى أن «فرنسا وألمانيا مع تطوير التعاون مع روسيا، ولكن ليس للغايات نفسها، ولا تطلّعاً للقيام بالدور عينه. موضوع الطاقة له الأولوية من منظور برلين. السيل الشمالي 2 ستكون له نتائج مهمة بالنسبة الى أوروبا، لكنه قبل أي اعتبار آخر مشروع ألماني ــــ روسي يثير إلى الآن تحفظات من فرنسا». هذا المشروع، الذي سيصبح ناجزاً آخر هذه السنة بما سيسمح بتزويد أوروبا بـ 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنوياً عبر بحر البلطيق (يمرّ بخمسة بلدان هي: روسيا وفنلندا والسويد والدنمارك وألمانيا، فيما يتجنب أوكرانيا وبولونيا وسلوفاكيا)، أثار سجالات عاصفة بين الدول الأوروبية. ومنذ شهور، وقفت فرنسا إلى جانب البلدان المطالبة بمراجعة توجيه من الاتحاد الأوروبي حول نقل الغاز يعيق إتمام مشروع «السيل الشمالي 2» المدعوم من ألمانيا، المرفوض من الولايات المتحدة التي تأمل زيادة صادراتها من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا الوسطى.
تغيير المقاربة الفرنسية لن يفضي إلى تناغم علاقات الدول الأوروبية المختلفة مع روسيا، والمرتبطة بعوامل خاصة بالنسبة إلى كل بلد كالمصالح الاقتصادية وتأمين مصادر الطاقة والتاريخ والرؤى الأيديولوجية. كريستيان لوكين يتقاطع مع هذا التحليل، لأنه يعتقد أن «دول البلطيق، وخاصة ليتوانيا، حذرة جداً من روسيا بسبب تجذر انتمائها الغربي، الوثيق الصلة بتاريخها. الاعتبارات الأيديولوجية تطغى على غيرها في تحديد موقفها. أما تشيكيا وهنغاريا فهما على استعداد للحوار انطلاقاً من اعتبارات براغماتية صرفة. لم تعد للأيديولوجيا الأهمية نفسها بالنسبة إليهما»، فيما بولونيا، ذات التوجه الأطلسي والمعادية لروسيا، ما زالت تمتلك قدرة تأثير لا يستهان بها داخل الاتحاد الأوروبي، الذي لم يُظهر إلى الآن استعداداً لرفع العقوبات عن روسيا. هذا المشهد المتناقض والمعقد لا يلغي حقيقة التقدم نحو تفاوض مع موسكو. قد لا يحظى هذا الخيار بالإجماع، لكنه لمصلحة أوروبا للخلاص من التبعية الحصرية للولايات المتحدة في سياق حرب تجارية تشنها الأخيرة عليها، وانتزاع قدر أكبر من الاستقلالية عبر بناء شراكات متعددة.