يصعب على المراقبين فصل إقالة مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، عن ملف إيران، بغضّ النظر عن حجم التأثير المتوقّع. في طهران، سريعاً توالت التعليقات على الإقالة، وإن بدت تصريحات المسؤولين متفاوتة اللهجة، إلا أنها تقاطعت عند الترحيب ضمناً بالحدث، لكن بشيء من الحذر، على اعتبار أن إزاحة أكبر الصقور في البيت الأبيض قد لا تكون كافية لوقف العقوبات وخوض مفاوضات.
ظريف: التعطّش للحرب والضغوط القصوى ينبغي أن يزولا مع غياب أكبر داعية للحرب (أ ف ب )

لا تكمن أهمية إبعاد أخطر أضلع مربّع الحرب على إيران، الذي ابتكر وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف له مصطلح «فريق ب 4» (بولتون وبنيامين نتنياهو وابن سلمان وابن زايد)، في كون بولتون شخصاً صاحب أفكار شديدة التطرّف ولا يخفي تأييده لسياسة الحملات العسكرية، فحسب. الأهم أن الرجل ترجم عداءه لإيران ولاتفاقها النووي في هذه المرحلة بخطة وبرنامج عمل نشره في «ناشيونال ريفيو» عام 2017، حين كان خارج الإدارة. وأوضح يومها أن ستيف بانون طلبها منه بناءً على طلب الرئيس دونالد ترامب، الذي اشتكى بولتون من عدم قدرته على الاتصال واللقاء به، قبل أن تفتح أبواب البيت الأبيض له ويحمل لقب مهندس خروج واشنطن من الاتفاق النووي.
يربط البعض بين المقال، الذي أعاد نشره ظريف في تغريدة قبل أسابيع، وسياسة «الضغوط القصوى» المتبعة أميركياً منذ الانسحاب من الاتفاق النووي، وبالتالي تتعزّز التوقّعات بأن رحيل «مهندس الخطة» سيتبعه تغيير سيطرأ في الأيام المقبلة على سياسة البيت الأبيض تجاه الملف. من هنا، بدا تعليق ظريف على إخراج بولتون احتفالياً، لكنه حذّر في الوقت نفسه من استمرار السياسة نفسها في إشارة إلى عقوبات جديدة فرضتها الحكومة الأميركية بالتزامن مع إقالة بولتون. وكتب ظريف: «بينما كان العالم... يتنفس الصعداء لإطاحة رجل الفريق باء في البيت الأبيض، أعلنت (واشنطن) فرض المزيد من الإرهاب الاقتصادي (العقوبات) على طهران»، وأضاف: «التعطش للحرب والضغوط القصوى ينبغي أن يزولا مع غياب أكبر داعية للحرب (بولتون)». وفيما اكتفى الرئيس حسن روحاني بالقول: «ينبغي لأميركا أن تدرك أن... عليها أن تنأى بنفسها عن دعاة الحرب»، اعتبر مدير مكتبه، محمود واعظي، أن الإقالة «تظهر أنه حتى الإدارة الأميركية المتطرفة أدركت أخيراً أن زمن إثارة الحروب والتهديد قد ولى»، وزاد: «لو أرادت هذه الإدارة التعاطي مع العالم، فإن السبيل هو المنطق». أما أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، علي شمخاني، فأكد أن «طرد بولتون المشين من البيت الأبيض» يشكّل هزيمة لمخطط أعداء النظام، وعلامة على صمود بلاده بوجه التهديدات، لكنه نبه إلى أن «تعيين المسؤولين في الإدارة الأميركية وعزلهم لن يؤثّرا بمواقف إيران من النيّات السيئة لهذا البلد... معيار التقييم لدى الجمهورية الإسلامية يرتكز على السياسات الحقيقية».
يزداد الشعور بالارتياح في طهران تجاه إطاحة بولتون مع استعادة مواقفه العلنية الداعمة للمجموعات المعارضة للنظام، كتنظيم «مجاهدي خلق»، وتركيزه على إطاحة هذا النظام الذي كرّر وضع وعود ومواعيد لسقوطه، وتوقّع ألّا يحتفل بالذكرى الـ40 لثورته، كما للمفارقة فإنه قال في خطاب العام الماضي لمجموعات معارضة في الخارج إنه سيحتفل معهم في طهران عام 2019. بالموازاة، أنصار التفاوض مع الولايات المتحدة وجدوا الآن ذريعة جديدة لإقناع معارضي الحوار بأن التطور داخل البيت الأبيض جدير بالاهتمام ويساعد على ملاقاة ترامب في منتصف الطريق. إقالة ترامب لبولتون عشية اجتماعات الأمم المتحدة، حيث ينصبّ رهان المبادرة الفرنسية على عقد لقاء بين روحاني وترامب، فتحت شهية التحليلات على رغبة جامحة لدى ترامب في إنجاح هذه المبادرة. لكن لا يبدو أن أحداً في مؤسسات القرار في طهران سيقبل بالاكتفاء بهذا القدر، إذ المطلوب اختبار جدّية ترامب عبر الطلب منه إظهار المؤشر الثاني والأهم على «حسن النية»، وهو إيقاف «الحرب التجارية»، سواء بالتخفيف من سياسة الضغوط أو إعادة الإعفاءات أو ربما تعليق العقوبات. وسريعاً كثّفت طهران من تركيزها على هذا الطلب، وأكدت أنه شرط لا تراجع عنه لحدوث التفاوض أو حتى اللقاء بين الرئيسين في نيويورك هذا الشهر. هذا ما شكّل مضمون الاتصال الذي جمع مساء أمس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ونظيره الإيراني، والذي بدا لافتاً في توقيته. وبحسب وسائل الإعلام الإيرانية، أكد روحاني للوسيط الفرنسي أنه «لا معنى للمفاوضات مع أميركا ما دامت العقوبات قائمة».
لكن الشرط الإيراني لا يبدو مستحيل التحقق بعد اليوم، ولا سيما مع الاستناد إلى الرواية حول أسباب الخلاف المباشر بين ترامب وبولتون، التي نقلتها أمس وكالة «بلومبرغ» الأميركية ونسبتها إلى ثلاثة مصادر، مسبّبة تراجع أسعار النفط 2%. فبحسب هذه الرواية، عارض بولتون أفكاراً نوقشت قبل ليلة من الإقالة في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، بينها ما يتعلّق بتخفيف العقوبات على إيران لتسهيل عقد لقاء روحاني وترامب وانطلاق المفاوضات.