بالكاد، استطاع مايك بومبيو أن يتمالك نفسه بينما كان يقف أمام الصحافيين في البيت الأبيض، وإلى جانبه وزير الخزانة ستيفن منوتشين. ساعات قبل المؤتمر الصحافي أول من أمس، أعلن ترامب استغناءه عن خدمات جون بولتون. بدا بومبيو على هيئة منتصر، وكثيراً ما أقحم ابتسامات عريضة. نادراً ما يعرض هذا الأخير أي عاطفة تتجاوز «الصبر» لدى إجابته عن أسئلة الصحافيين. لكنه، هذه المرة، انتهز الفرصة ليشير إلى خلافاته الكثيرة مع المستشار المُقال، وأنه لم يفاجَأ قَطّ بطرده، من دون أن ينسى الإشارة إلى «شخصية لا نخفي الاشمئزاز الذي تثيره لدينا». وبهدف مقاربة وجهة نظره بصورة أوضح، شدّد الوزير على قربه من ترامب، قائلاً: «نحن نعمل بشكل وثيق مع رئيس الولايات المتحدة».
بدا بومبيو على هيئة منتصر، وكثيراً ما أقحم ابتسامات عريضة (أ ف ب )

ولأن إدارة ترامب تعمل، إلى حدّ كبير، وفق أهوائه، يمكن أحدهم أن يصبح في الدائرة الضيقة للرئيس في غضون أسبوع واحد، وأن يرحل في اليوم التالي. يعيدنا هذا إلى بومبيو. لا شك في أن هذا الأخير أصبح «الطفل الذهبي» لهذه الإدارة. انتزعه ترامب من مجلس النواب، وعيّنه مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية حين كان التوتّر بين الرئيس والـ«سي آي إيه» على أشدّه، قبل أن يدفع بريكس تيلرسون خارج وزارة الخارجية من أجل تنصيب بومبيو. لقد نجح «قولاً وفعلاً»، كما وثّقت سوزان غلاسر في «نيويوركر» أخيراً.
مهادِناً حين يتعلّق الأمر بالسياسات التي يروّج لها ترامب، يعرّف بومبيو وظيفته بأنه «خادم الرئيس»، بصرف النظر عمّا يطلبه منه هذا الرئيس. يردّد أن «على وزير الخارجية أن يعرف ما يريده رئيسه». أيّ شيء يقوله ترامب يؤيّده بومبيو. يصفه أحد كبار المسؤولين السابقين في البيت الأبيض بأنه «من بين أكثر الناس تعاطفاً ودناءة من المحيطين بترامب»، وفق ما تنقل غلاسر. وباعتباره آخر عضوٍ في مجلس الأمن القومي الخاص بترامب، كان بومبيو حريصاً على عدم وجود مسافة بين وجهات نظره وآراء الرئيس. قاعدةٌ لم يتمكن بولتون وسلفه هربرت ماكماستر، أو حتى تيلرسون، من ترجمتها.
يُعَدّ بومبيو وبولتون عدوين بيروقراطيين طبيعيين


مع رحيل بولتون، بات بومبيو يجلس في مقعد القيادة حين يتعلّق الأمر بالسياسة الخارجية لإدارة ترامب. إذ إن خروج منافسه الرئيس من الصورة سيعطيه هامشاً أكبر من الاستقلالية والحرية في العمل. تُرك بومبيو وحيداً من دون نظير في فريق ترامب للأمن القومي: وزير الدفاع مارك إسبر تسلّم منصبه منذ أسابيع، ولم يُعيَّن مدير للاستخبارات الوطنية، كذلك لم يُثبَّت مندوب أميركي لدى الأمم المتحدة. من هنا، يرى رئيس مجلس إدارة «مجموعة أوراسيا»، كليف كوبشان، أن إقالة بولتون «تمنح بومبيو مساحةً أكبر للحركة»، على رغم أن الرئيس هو الذي يحدّد السياسة الخارجية. كانت الاختلافات بين بومبيو وبولتون أقلّ أيديولوجية منها تكتيكية، مع وجود فجوة واسعة تفصل بين الطرق التي عبّرا فيها عن آرائهما، إن كان أمام الرئيس أو حتى أمام الجمهور. وفي حين أن بومبيو ليس أقلّ «صقورية» من بولتون حين يتعلّق الأمر بإيران مثلاً، وفق مدير دراسات السياسة الخارجية في معهد «كاتو» جون غليزر، فإن «المفاوضات مع كوريا الشمالية لن تشكل عائقاً كما في السابق، في ظلّ وجود معارضة داخلية أقل».
يعكس صعود بومبيو أيضاً اتجاهاً استمر عقداً من الزمن، حين لم تعد وزارة الخارجية مسيطرة على السياسة الخارجية، مع اكتساب مجلس الأمن القومي نفوذاً واسعاً. كانت لدى بولتون ميزة العمل بالقرب من المكتب البيضاوي وخبرة أكبر بكثير في الفرع التنفيذي بصفته مندوباً سابقاً لدى الأمم المتحدة. ومع ذلك، غالباً ما كان يؤدي دور المُفْسد. في مذكراتها، توضح كوندوليزا رايس سبب عدم رغبتها في تعيين بولتون في وزارة الخارجية أثناء تولّيها المنصب، ولكنّها لم تواجه أي مشكلة في «شحنه» إلى نيويورك. تقول: «لم أكن متأكدة من أنه يمكنني أن أثق بجون... لم أكن أريد مواجهة لاحقاً إذا كان جون متمرداً. ومع ذلك، بدا لي أنه سيكون سفيراً جيداً لدى الأمم المتحدة، حيث تُعدُّ شكوكه حول المنظمة ميزة بالنسبة إلى المحافظين».
يُعَدّ بومبيو وبولتون عدوين بيروقراطيين طبيعيين. آراء بولتون، على رغم كونها متطرّفة، غير أنها تتماشى عموماً مع أفكار المحافظين؛ فهي تمزج نهج التدخل مع الاستعداد لتصعيد الضغط على الخصوم. لقد اقترن ذلك أيضاً بالرغبة في الانخراط في الاقتتال البيروقراطي، الأمر الذي أدى إلى عداوات داخل الوكالات الأميركية، وبين أولئك الذين كانوا يهمسون في أذن الرئيس. كمتلاعب بيروقراطي، اعتاد بولتون أن يصنع الأعداء داخل السلطة التنفيذية، خلافاً لبومبيو. «كان بولتون أيديولوجياً وجلب أيديولوجيته معه إلى وظيفته... قد يكون بومبيو أيديولوجياً أيضاً. لكن أثناء خدمته في الإدارة، فإن أيديولوجيته تتأقلم مع دوره كعامل مساعد»، وفق ستيف بومبر، الذي عمل في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي أثناء إدارة أوباما.
ليس واضحاً إلى متى سيبقى بومبيو في مدار ترامب. ويُعتقد على نطاق واسع أنه يحمل طموحات للانضمام إلى مجلس الشيوخ. لكن في الوقت الراهن، يبدو موقفه في دائرة الرئيس الضيقة صلباً. يلخّص ترامب الجزء المفضّل لديه من الدينامية مع بومبيو خلال مقابلة مع مجلة «نيويوركر» في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، بالقول: «أنا أجادل الجميع باستثناء بومبيو... لا أعتقد أنني تجادلت معه على الإطلاق».