لا يكاد يمرّ يوم إلا ونسمع تصريحات للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ضد الصين، وبمضامين اقتصادية بحتة، وكأن الحرب بين الطرفين ليست إلا في هذا الإطار. ربما السبب في ذلك، أن ترامب يتصرف كرجل أعمال. ولكن في الحقيقة ثمة أبعاد كثيرة لهذه الحرب التي بدأت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ومساعي الولايات المتحدة وحليفاتها الرأسماليات إلى النيل من نظام ماو تسي تونغ الذي هزم الإمبريالية الأميركية، وقبلها الفرنسية، في فييتنام. فبعدما وصل النظام الرأسمالي العالمي إلى طريق مسدود، وهو ما سبق سقوط النظام الشيوعي، أطلق الغرب مشروع العولمة الذي أراد من خلاله إيجاد حلول عاجلة لأزماته الاقتصادية التي اعتقد أن مفاتيحها موجودة في الصين بجغرافيتها الواسعة والملايين من أيادي العمل الرخيصة فيها. ورحّبت بكين بهذه الفكرة، بشرط أن يتخلّى الغرب عن حملته ومساعيه إلى زعزعة النظام الشيوعي، وهو ما وافقت عليه واشنطن لتكون الصين طرفاً في نظام العولمة الجديد، ولكن بمقاييسها ومعاييرها التي حدّدتها بذكاء. انضمّت الصين عام 2001 إلى «منظمة التجارة العالمية»، ووافقت شفهياً على عدم خلق المشاكل للولايات المتحدة في أي رقعة من الكرة الأرضية، مقابل أن يعلّق الغرب ملف الأقليات والديمقراطية وحقوق الإنسان وتمرّد تيانانمن عام 1989. ومع انتخاب شي جين بينغ زعيماً لـ«الحزب الشيوعي» عام 2012، بدأ الصراع الخفي بين الطرفين، وهذه المرّة اقتصادياً وخلافاً لحسابات الغرب.اعتقد الغرب أنه، بانفتاح بكين على العالم ودخول الاستثمارات الأجنبية إلى الصين، ستشهد البلاد تطوراً على مستوى السياسات الليبرالية والشفافية وحقوق الإنسان والديمقراطية، وهو ما سيساهم في ميلاد طبقة رأسمالية صينية مستعدة للتنسيق والتعاون المشترك مع الرأسمالية العالمية، ليكون ذاك بوابة التأثير الغربي في القرار السياسي الصيني. لكن حسابات الغرب خابت عندما نجح «الحزب الشيوعي» في تحقيق تكامل نوعي بينه وبين الطبقة الرأسمالية الصينية الجديدة، أو الطبقة «الرأسمالية الحمراء»، وفق ما سمّاها البعض، لعلاقتها المباشرة مع قيادات الحزب. وأفشل ذكاء الصين مشاريع الغرب لاختراق نظامها السياسي وتركيبتها الاجتماعية من الداخل، ما ساعدها على شنّ هجومها المعاكس عبر مقولاتها القومية التي نجحت من خلالها في التأثير بالطبقات المتوسطة التي أقنعها الحزب بأن الصين دولة عظيمة، وبأنها بانفتاحها على العالم ستتحدى الجميع. وأدى ذلك دوراً أساسياً في حملات التصنيع الوطنية وفق المقاييس العالمية، لتصبح الصين دولة صناعية عظمى.
وبفضل هذا الوضع الجديد، احتلّت الصين المرتبة الأولى من حيث الحصول على براءات الاختراع في العالم، وأرسلت قمرها الصناعي إلى الجانب المظلم من القمر. وسبقت شركةُ «هاواوي» الصينية شركةَ «آيفون» الأميركية في مبيعاتها من الأجهزة الخلوية، وتقدّمت عليها من حيث خدمات البنى التحتية لنظام «5G». واشترت الشركات الصينية العديد من الشركات والمنتجات الأميركية، ومنها حاسوب «Lenovo» لشركة «اَي بي أم»، وشركة الأجهزة المنزلية التابعة لـ«جنرال إلكتريك»، ودور السينما التي تملكها شركة «AMC» الشهيرة، وعدد كبير من الفنادق الشهيرة، وشركة «موتورولا» للهواتف الخلوية. كذلك، اشترت الشركات الصينية، خلال السنوات العشر الماضية، 360 شركة من الشركات الأوروبية، ومنها مصانع سيارات «فولفو» وإطارات «بيريللي»، بالإضافة إلى شرائها الكثير من أسهم وحصص الشركات الأخرى، ومنها محطات نووية لتوليد الطاقة في بريطانيا، وموانئ في اليونان، ومطارات وأندية كرة قدم. ولم تهمل الصين استثماراتها الكبيرة بشرائها للكثير من الشركات في أوستراليا وماليزيا وإندونيسيا، حيث كان الغرب يخطط لمحاصرتها عبرها. ومن دون أن تهمل مساعيها إلى دخول بورصة نيويورك، فقد دخلت في مباحثات مباشرة لشراء بورصة شيكاغو، بعدما أعلنت أنها ستسمح للمصارف الغربية، بل وحتى لشركات التأمين، بفتح فروع لها في بكين وباقي المدن الصينية الكبيرة. وأسهم كل ذلك في تحقيق فائض كبير لمصلحتها في التجارة مع الولايات المتحدة، التي استوردت من الصين ما قيمته 539 مليار دولار، وصدّرت إليها ما قيمته 120 مليار دولار لعام 2018. والغريب في الموضوع أن أحد أسباب هذا الفائض، صادرات الشركات الأميركية العاملة في الصين، ومنها على سبيل المثال شركة «آبل». وكان هذا الفائض السبب الرئيس في حرب ترامب ضد الصين، بعدما انزعجت واشنطن من تعاونها العسكري الوثيق مع موسكو، وزيادتها ميزانية التسلح، وسعيها إلى تشكيل «بنك التنمية لدول شرق آسيا»، وتفكيرها في مشاريع ضخمة، منها طريق الحرير الجديد تحت عنوان «طريق واحد جيل واحد».
باختصار، يبدو واضحاً أن الصين كانت ولا تزال، على الأقل حتى الآن، الرابح الأكبر من سياسات العولمة التي جعلت منها دولة عظمى بالمفهوم العملي، ليس فقط عبر العضوية في مجلس الأمن الدولي. يفسر كل ذلك حرب ترامب ضد الصين على الصعيد الاقتصادي والمالي، على الرغم من مساعيه إلى المصالحة مع كوريا الشمالية التي لا تخرج عن الفلك الصيني الذي سيستمرّ ترامب في حصاره اقتصادياً ومالياً. وأدى هذا الحصار إلى تراجع التجارة الصينية مع الولايات المتحدة بنسبة 14% خلال الأشهر الستة الماضية. كذلك أدى إلى ركود اقتصادي نسبي في الأسواق الصينية التي تنتظر ردّ فعل الشركات الأميركية والأوروبية التي استثمرت ولا تزال تخطط للاستثمار في الصين بمليارات الدولارات. ويعرف الجميع أن بكين، بدورها، لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه جنون ترامب، الذي سيسعى إلى تعويض خسارته في الصين بابتزاز إضافي يَتوقع أن يحقق له مليارات سعودية وخليجية جديدة كاستثمارات، أو مشاريع هي عدّاً ونقداً بيد صهره الصهيوني جاريد كوشنر الذي يشجّع إسرائيل وشركاتها على التعاون الاقتصادي والتجاري، بل وحتى الأمني، مع بكين، ضد الإسلاميين في باكستان وأفغانستان.