بدأ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، اتخاذ خطوات هجومية على جبهتين يدور عليهما الصراع السياسي الداخلي في تركيا في هذه المرحلة: الأولى مع المعارضة، وأبرز تطوراتها إقالة رؤساء بلديات ديار بكر وماردين وفان. أما الجبهة الثانية، فهي داخل حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، أو مع الخارجين منه و المخرَجين حديثاً، وفي مقدّمهم عبد الله غول وعلي باباجان وأحمد داود أوغلو.يَدين أحمد داود أوغلو، في مسيرته السياسية الحافلة، لرجل واحد هو: رجب طيب أردوغان، الذي وثق به وجاء به من الحقل الأكاديمي إلى رئاسة الحكومة مستشاراً له، ثم مستشاراً أيضاً لوزراء الخارجية، قبل أن يعيّنه عام 2009 وزيراً للخارجية. وبلغت الثقة بداود أوغلو إلى حدّ أن أردوغان، وقد أصبح رئيساً للجمهورية، اختاره عام 2014 ليخلفه كرئيس للحكومة والأهم لحزب «العدالة والتنمية».
لم يختلف الرجلان على السياسات الخارجية. كان داود أوغلو منظّرها وأردوغان فارسها. لكن شيئاً واحداً كسر هذه الشراكة، هو التطلعات الرئاسية لأردوغان. في عام 2015، اعتبر أردوغان أن انتخابات 7 حزيران 2015 هي استفتاء على النظام الرئاسي الذي كان يريد الانتقال إليه. وإذ خسر حزب «العدالة والتنمية» الانتخابات، خرج رئيس الحزب والحكومة حينها، داود أوغلو، قائلاً إن الانتخابات أظهرت أن الشعب لا يريد النظام الرئاسي. وهو أمر لم يستطع أردوغان أن «يبتلعه». أعدّ الخطة وخاض بداود أوغلو انتخابات مبكرة بعدها بخمسة أشهر، حتى إذا أقبل أيار 2016، كان أردوغان ينفّذ انقلاباً بعزل داود أوغلو من رئاستَي الحكومة والحزب، ويعيّن بن علي يلديريم بدلاً منه، لتبدأ بعدها استعداداته لتغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، ونجح بذلك في الاستفتاء على التعديلات في نيسان 2017، وبعدها بسنة أقيمت انتخابات نيابية ورئاسية مبكرة أصبح فيها أردوغان «سلطاناً» جامعاً لصلاحيات لا يتمتع بها أي رئيس أو ملك في أي دولة.
لم يبادر داود أوغلو بعد عزله الأول إلى الانسحاب من الحزب. فضّل أن يبقى وفياً للحزب ولوليّ نعمته أردوغان، إلى أن أصدر «المانيفستو» الشهير في 22 نيسان الماضي، مُوجّهاً فيه انتقاداً لاذعاً إلى أردوغان وسياساته. بالطبع، لم يرق ذلك أردوغان الذي انتظر إلى ما قبل أيام ليسوق داود أوغلو إلى لجنة الانضباط في الحزب، التي اتخذت قراراً بفصله، على أن تصدِّق اللجنة المركزية عليه. بقي عبد الله غول خارج الحزب بعد انتهاء ولايته الرئاسية عام 2014، لأن أردوغان منعه من العودة، فيما أقدم علي باباجان، وزير الخارجية والمالية السابق، على مواجهة أردوغان وجهاً لوجه في حزيران الماضي في القصر الرئاسي، عندما أبلغه أنه سينسحب من الحزب، وهكذا فعل. أما أحمد داود أوغلو، فقد ارتأى ألّا يتخذ الخطوة الأولى، بل أن تصدر عن الحزب. في ذلك وجهان: الأول، أنه سيخرج أمام الرأي العام على أنه ضحية قرارات الشخص الواحد، وبالتالي يحوّل صورته إلى بطل يوظفها في معاركه السياسية المقبلة، وقد كان بين أعضاء الحزب من لا يريد لهذا السبب عزله. والوجه الثاني، أن داود أوغلو لم يخرج بكرامته، وطُرد الآن طرداً كما كان قد عُزل عزلاً في أيار 2014.
هدّد وزير الداخلية بأنه إن لم يقتصر نشاط إمام أوغلو على البلدية، فسوف «أجعله يندم»


كيفما اتفق، فإن كل الصراع السياسي الآن في تركيا يدور على جبهتين: الأولى، بين أردوغان، لكونه يختصر بنفسه الحزب والمعارضة، والثانية داخل حزب «العدالة والتنمية»، أي بين أردوغان ومَن كانوا في الحزب، مثل عبد الله غول وعلي باباجان وأحمد داود أوغلو. وقد برزت في خضمّ هذه التطورات خطوات هجومية لأردوغان ضد خصومه في المعارضتين. من ذلك، ما أقدم عليه في إقالة رؤساء بلديات ثلاث كبيرة، هي: ديار بكر وماردين وفان، ينتمون إلى حزب «الشعوب الديمقراطي» (الكردي)، على الرغم من أنه لم يمضِ على انتخابهم سوى خمسة أشهر، ليكمل المعيّنون السنوات الأربع المقبلة في مواقعهم كأنه لم تجرِ انتخابات ولا من يحزنون. وقبل ذلك، كانت محاولة أردوغان الالتفاف على نتائج إسطنبول، لكن انتخابات الإعادة كانت الحفرة التي وقع فيها أردوغان للمرة الأولى منذ 17 عاماً، حيث أصبحت المدينة بيد حزب «الشعب الجمهوري».
لكن زيارة لرئيس بلدية إسطنبول الجديد، أكرم إمام أوغلو، لرئيسي بلدية ديار بكر وماردين المعزولين في ديار بكر، كانت كافية لكي يعتبرها وزير الداخلية، سليمان صويلو، الفرصة الذهبية لبدء الانقضاض على إمام أوغلو، وربما أيضاً على رئيس بلدية أنقرة منصور صواش، من حزب «الشعب الجمهوري»، بذريعة أن إمام أوغلو يتواصل وينسق مع رئيسَي بلديتين معزولين بتهمة دعم «الإرهاب الكردي الانفصالي»، وبالتالي عزلهما كذلك من منصبيهما. وأدلى صويلو بتصريح قبل أيام يهدّد فيه أكرم إمام أوغلو بأنه إن لم يقتصر نشاطه على عمله في البلدية (أي لا زيارات لخارجها) فسوف «أجعله يندم». وفسّر المحللون ذلك بأنه بدء التحضير لعزل إمام أوغلو. ولاقى موقف صويلو التهديدي تنديداً واسعاً من كل زعماء المعارضة الذين دعوه إلى الاستقالة فوراً.
إخراج داود أوغلو من الحزب كان برأي المعلق في صحيفة «ملييت»، غونيري جيفا أوغلو، رسالة استباقية إلى علي باباجان وعبد الله غول. إذ يُنقل عن أردوغان أن داود أوغلو لا يخيف، بل باباجان وغول، خصوصاً أن الإشاعات تطرح اسم غول «المعتدل»، وربما علي باباجان «الأكثر اعتدالاً»، مرشحاً مشتركاً للمعارضة يمكن أن يلقى قبولاً واسعاً، بعكس داود أوغلو الذي يتسم بنزعة دينية متشددة. ويرى عبد القادر سيلفي، المقرب من أردوغان، من جهته، في صحيفة «حرييت»، أن تأسيس حزبين من قبل غول - باباجان وداود أوغلو سيأكل حتماً من قاعدة حزب «العدالة والتنمية»، وسيؤثر بمعركة أردوغان في عام 2023. وإذ يلفت إلى أن كل جهود المعارضين تنصبّ على تصفية أردوغان في عام 2023، فهو يتوقع تأسيس الحزبين الجديدين في الخريف المقبل. بدوره، يذهب مراد يتكين، في موقعه الإلكتروني، إلى أن خوف أردوغان هو من أنه كان بنظر جمهوره «الزعيم الذي لا يقهر»، بينما غيّرت انتخابات إسطنبول وأنقرة والبلديات الكبرى عموماً هذه الصورة للمرة الأولى منذ 17 عاماً، وهو ما يرعب أردوغان ويجعله يمانع الدعوة إلى انتخابات مبكرة ريثما يصحح الوضع إن أمكنه ذلك. ويقول يتكين إن المعترضين والمستقيلين من حزب «العدالة والتنمية» ليسوا فقط نواباً أو وزراء، بل رجال أعمال يتحدثون عن «حاشية الرئيس» و«هيمنة العائلة» على القرار واحتكار النفوذ، الأمر الذي بدأت تعكسه منذ فترة صحيفة «قرار» المعارضة داخل الحالة الإسلامية، التي كان معظم من فيها من أتباع أردوغان. لكن يتكين يشير إلى أن من أسباب قلق أردوغان أيضاً الوضع الاقتصادي، حيث يتقلص حجم الاقتصاد التركي منذ سنة باطراد. كذلك، فإن كلامه عن أن اتفاقية سوتشي بشأن إدلب تتلاشى تدريجاً، مؤشر على بدء انهيار سياسته السورية. بالمختصر، يؤكد يتكين أن أردوغان لا يريد انتخابات مبكرة.
في خضمّ هذه التطورات، دقّ جرس إنذار آخر أمام أردوغان. إذ نشرت شركة «متروبول»، الثلاثاء الماضي، استطلاعاً للرأي أظهر أن نسبة الذين يدعمونه هي 44% (المعارضون 49%)، بينما كانت قبل عام واحد 54% (المعارضون 38%)، أي بتراجع نسبته 10%. وهذا مؤشر قلق، خصوصاً أن انتخابات رئاسة الجمهورية هي الأساس، لا الانتخابات النيابية، ويجب الفوز بها بالنصف زائداً واحداً. وقد تخلى 10% من ناخبي «العدالة والتنمية» عن دعم أردوغان، فيما أيده، للمفارقة، 37% من ناخبي حزب «الحركة القومية».