طهران | تَحوَّل الفساد، خلال السنوات الماضية، إلى معضلة مزمنة في الاقتصاد الإيراني. في الآونة الأخيرة، جرى الكشف عن حالات عديدة من استغلال المال العام، فيما حذّر كبار مسؤولي الدولة، بمن فيهم المرشد علي خامنئي، مراراً، من تمدّد الفساد وتعملقه. خامنئي كان قد شدّد قبل 18 عاماً، من خلال أمر عُرف بـ«الأمر ذي الثماني مواد»، على ضرورة مكافحة الفساد، ومع ذلك لم يتمّ خلال السنوات الأخيرة إيلاء اهتمام يذكر لهذا القرار. لكن، ومنذ نحو سنة، حين أعيد فرض العقوبات الأميركية على إيران، وبات الاقتصاد بحاجة إلى المزيد من الفاعلية لمقاومة الضغوط الأجنبية، أثيرت قضية مكافحة الفساد بصورة جادة. ومذاك، تم تحديد أربع غرف للمحاكم الخاصة بالبتّ في الملفات الاقتصادية، لتتّسم محاربة الفساد بطابع أكثر جدية. ومن ميزات هذه المحاكم أن القرارات الصادرة عنها ليست بحاجة إلى محكمة استئناف، في حين تتم إحالة أحكام الإعدام والسجن المؤبد إلى المحكمة العليا فحسب.
الكثير من الملفات التي بتّت فيها السلطة القضائية تم الكشف عنها بداية من قبل نشطاء مدنيين (أ ف ب )

ومنذ نحو ستة أشهر، حين عيّن خامنئي، إبراهيم رئيسي، رئيساً للسلطة القضائية، اتخذت تلك العملية وتيرة أشد. ورئيسي، الذي تنافس في الانتخابات الرئاسية السابقة مع حسن روحاني، يُعدّ من الوجوه التي لها ماضٍ طويل في الجهاز القضائي، بما في ذلك تولّيه مناصب مثل النائب الأول لهذه السلطة. وهو قدم للمرشد، في مستهلّ مهمته، «وثيقة التحول الأساسي في السلطة القضائية». وقال رئيسي في الآونة الأخيرة إن إيران «لا تقبل الفساد مطلقاً»، وإن التصدي لحالات الفساد المالي لن يكون مرحلياً وموسمياً بل «أمواج ستأتي على الفساد برمته». وأضاف أنه وباقي المسؤولين في الدولة يسعون جاهدين إلى محاربة الفساد، وسيتصدّون له «حيثما يحطّ، وفي أي نظام إداري وقضائي واقتصادي وثقافي وسياسي يريد تدنيسه».
واستهلّ رئيسي مكافحة الفساد بالسلطة القضائية ذاتها، من أجل تعزيز قوتها في محاربة الفساد في الأجهزة والمؤسسات الأخرى. وشكّل اعتقال أكبر طبري، المساعد التنفيذي والمدير العام للشؤون المالية لرئاسة السلطة القضائية في عهد رئاسة صادق لاريجاني لتلك السلطة، بتهمة الفساد، نقطة بداية وانطلاقة لبدء التطهير في السلطة القضائية. كذلك، تمت تنحية أكثر من 60 قاضياً ارتكبوا مخالفات، فيما قلّص رئيسي عدد الحسابات المصرفية التابعة للسلطة القضائية، والتي كانت مثار جدل وانتقاد في الدورة السابقة. وقال علي عبد اللهي، رئيس قسم الأمن في السلطة القضائية، إن هذه المؤسسة السيادية، وامتثالاً لأوامر خامنئي، تقوم بالتصدي لحالات الفساد داخلها.

موجة الاعتقالات
خلال الأشهر الأخيرة، تم القبض على عدد كبير من الأشخاص، بعضهم من المديرين والمسؤولين في البلاد بتهمة الفساد. كما تم، بإيعاز من رئيسي، تشكيل مجمع قضائي خاص بالفساد الاقتصادي. وتطرّق غلام حسين إسماعيلي، المتحدث باسم السلطة القضائية، إلى دور المحاكم الاقتصادية الخاصة، وقال إن 978 حكماً باتّاً صدرت في شأن ملفات الفساد الاقتصادي عن المحاكم والغرف الخاصة منذ تشكيلها حتى الآن في مختلف أرجاء البلاد. وأضاف أن من بين هذه الأحكام 9 بالإعدام، و4 بالسجن المؤبد، و100 بالسجن حتى 20 سنة، و731 بالسجن أقلّ من 10 سنوات، و44 حالة تتعلق بالسجن لفترة تراوح بين 20 و30 سنة. وتم، أيضاً، بقرار من المحاكم، حرمان 116 من تولي المناصب الحكومية بصورة دائمة، وفصل 152 من مناصبهم بصفة مؤقتة، ونفي 10 أشخاص، والحكم بالجلد على 161 شخصاً من مرتكبي الجرائم الاقتصادية.
978 حكماً باتّاً صدرت في شأن ملفات الفساد الاقتصادي عن المحاكم والغرف الخاصة


وأحد أبرز الملفات هو ملف اختلاس في بنك «سرماية»، إذ إن اثنين من المدانين فيه هما برويز كاظمي وزير الرخاء في حكومة محمود أحمدي نجاد، وهادي رضوي صهر محمد شريعتمداري وزير التعاون والعمل والرخاء الاجتماعي في حكومة الرئيس حسن روحاني. ويُعدّ ملف مديرين سابقين في البنك المركزي، بمن فيهم أحمد عراقجي النائب السابق للبنك المركزي لشؤون العملة الأجنبية وابن شقيق عباس عراقجي أحد كبار أعضاء الفريق الايراني النووي المفاوض، أحد الملفات التي يتم بتّها الآن في المحاكم. وعلى مدى الأيام الأخيرة، تم القبض على رئيس «مؤسسة التخصيص»، وكذلك المدير التنفيذي لشركة «إيران خودرو» التي تُعدّ واحدة من أكبر مصانع صناعة السيارات في البلاد، بتهمة الفساد. كما ألقي القبض على اثنين من أعضاء البرلمان في ما يتصل بمخالفات في صناعة السيارات.
وأكد رئيسي أن جهاز القضاء لا يعير أي اهتمام للانتماءات السياسية للأشخاص في مكافحته للفساد، لا سيما الفساد الاقتصادي، وقال: «إننا عازمون على التصدي لجميع الأشخاص، حتى كبار الشخصيات مِمَّن يتصورون أنهم خط أحمر وبوسعهم الالتفاف على القانون من خلال علاقاتهم ونفوذهم. إننا لا نعتبر أن ثمة خطاً أحمر في محاربة الفساد سوى تطبيق القانون».

الضغوط الشعبية
أحد الأسباب المهمة لتوسيع نطاق مكافحة الفساد كان مطالب الشعب والناشطين المدنيين. فالكثير من الملفات التي بتّتها السلطة القضائية تم الكشف عنها بداية من قِبَل هؤلاء الناشطين. واللافت هو أن الخلية الرئيسة للتحركات المدنية المناهضة للفساد تتمثل في تلك الفئة من القوى التي تُعدّ من الداعمين للثورة والمرشد خامنئي. وحيد أشتري، على سبيل المثال، أحد الوجوه الشابة والمعروفة، قام بالتعاون مع عدد آخر من أصدقائه الشبان بتشكيل «خلايا المناداة بالعدالة» في مناطق مختلفة. تعمل الخلايا هذه منذ فترة على رصد المخالفات وتتبّعها، ومن ثم كشف النقاب عنها. في حديث إلى «الأخبار»، يرى أشتري أن الفساد «أحد التحدّيات والآفات الحالية للثورة»، والتي يجب تجاوزها «لكي تتحقق الأهداف الأولية للثورة والتي نادى بها الإمام الخميني». ويقول إن الثورة تخطت على مدى العقود الأربعة الأخيرة تحديات جساماً، بما فيها الحرب والعقوبات، و«معالجة مسألة الفساد، رغم صعوباتها، ليست أكثر صعوبة من تلك المشاكل». ويعتبر أن «التيار الرئيس المهتم بمحاربة الفساد يتمثل في القوى الوفية للثورة... حاملو راية مكافحة الفساد الرئيسيون اليوم هم أولئك الذين توجهوا خلال السنوات الأخيرة إلى سوريا لمحاربة الإرهاب التكفيري».