أثار التعاون التركي مع روسيا وإيران في شأن الأزمة السورية، في إطار ما يسمى «مسار أستانا»، وإبرام صفقة «أس 400» مع روسيا، ومن ثم استمرار الخلاف التركي مع الولايات المتحدة وما يواكبه من عقوبات وتوترات، تساؤلات كثيرة ومشروعة عمّا إذا كانت تركيا في صدد إحداث تغيير جذري في خياراتها السياسية بين «الغرب» الأميركي ـــ الأوروبي، و«الشرق» المتمثل في هذه الحقبة بروسيا وإيران.والإجابة عن مثل هذا السؤال أمر يوجب استحضار مختلف العوامل المحدِّدة لسياسات تركيا وخياراتها الخارجية، من زوايا تاريخية ومصالح راهنة. ومع أنه، حتى الحرب العالمية الأولى، كانت تركيا العثمانية تتحالف مع جزء من أوروبا من دون الآخر، فإنه بعد الحرب العالمية الثانية تحديداً باتت تركيا قبالة كتلة أوروبية واحدة مسمّاة اليوم «الاتحاد الأوروبي»، وأمام «غرب واحد» يشمل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. في المقابل، تركيا ليست أمام «شرق واحد»، أي إن إيران ليست وروسيا في حلف بنيوي واحد على غرار الاتحاد الأوروبي أو «حلف شمال الأطلسي». كما أن الشرق الإسلامي ليس واحداً حتى داخل الكتلة السنّية. فيكون الحديث عن مصطلح «شرق» أو «مشرق» واحد، غير علمي وغير عملي.
لا تتحدد خيارات الدول الاستراتيجية بناءً على معطيات أو أحداث ظرفية. تاريخياً، فإن الهوية القومية التركية، وأيضاً الدينية (المقصود المذهبية)، تحدّدت في ظلّ العداء لكلّ من روسيا السلافية والأورثوذكسية، والحروب بينهما كثيرة، كما في ظلّ الصراع القومي والمذهبي مع القومية الفارسية والصفوية الشيعية، وكذلك مع المملوكية العربية السنية، منذ مطلع القرن السادس عشر وما تلته لاحقاً من نزعات محمد علي باشا العربية في مصر وبلاد الشام وصولاً إلى مشارف الآستانة في النصف الأول من القرن التاسع عشر. تشكلت صورة كلّ من روسيا وإيران على أنها «عدو» في العقل السياسي والمجتمعي التركي حتى اليوم.
أما الغرب بشقه الأوروبي فكان «العدو» أيضاً على امتداد قرون. لكن العلاقات مع الغرب شهدت مسارين مهمين: الأول فكري، والثاني بنيوي. فمنذ نهاية القرن الثامن عشر، ومن بعد ذلك مع تنظيمات 1839 و1856 ودستور 1876 ومن ثم ثورة أتاتورك بعد العام 1923، كانت حركات الإصلاح السياسية والاجتماعية والاقتصادية في تركيا تحاكي الاتجاهات الغربية في الإصلاح، وأحياناً بإشراف غربي مباشر. وبعد الحرب العالمية الثانية، كانت تركيا تدخل في منظومة بنيوية تتجاوز أفكار الإصلاح، لتصبح عام 1952 عضواً في «حلف شمال الأطلسي»، ولتبدأ منذ نهاية الخمسينيات، وخصوصاً مع بروتوكول أنقرة 1963، مسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والذي لم يصل بعد إلى نهايته.
في المقابل، لم يكن هناك أي مسار إصلاحي ولا فكري ولا بنيوي مع «الشرق»، الروسي أو الإيراني أو العربي. بل كانت إقامة علاقات تركية مبكرة مع الكيان الصهيوني تأكيداً لخيارات تركيا «غير المشرقية» بعد الحرب العالمية الثانية.
ويمكن الاستدلال بمحطتين لجعل المقاربة أكثر موضوعية، وهي وصول حزب ذي طابع إسلامي بمفرده إلى السلطة عام 2002، هو حزب «العدالة والتنمية»، وواقع المصالح التركية الراهنة على جميع الأصعدة. لم يكن انتصار «العدالة والتنمية» بقيادة رجب طيب أردوغان في العام 2002 عادياً. فللمرة الأولى يصل حزب إسلامي إلى السلطة بمفرده، أي يسيطر على البرلمان ويشكل حكومة بمفرده ويوصل عام 2007 رئيساً للجمهورية من بين صفوفه هو عبد الله غول، أي إنه قادر على اتخاذ القرارات الحاسمة بحرية. لم تكن لدى «العدالة والتنمية» أي مشكلة فكرية أو سياسية أو أمنية مع الغرب تختلف عن تلك التي كانت قائمة في ظلّ الأحزاب العلمانية التي سبقته إلى السلطة على امتداد عقود. كان لدى الحزب مشكلة ــــ عقدة مع المؤسسة العلمانية المتشددة وحارستها المؤسسة العسكرية. لذا، ركّز في تحركه على محاولة كسر نفوذ المؤسسة العسكرية، ونجح في ذلك في استفتاء عام 2010 وفي إفشال المحاولة الانقلابية في 15 تموز 2016. في المقابل، كان حزب «العدالة والتنمية» مؤيداً لمشاركة تركيا في غزو العراق عام 2003، لكن تمرداً من بعض نوابه أفشل، مع نواب المعارضة، القرار في البرلمان، وانعكس ذلك انزعاجاً كبيراً لدى أردوغان. كذلك، انخرط أردوغان في مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، ونصّب نفسه عام 2005 رئيساً إقليمياً للمشروع في ظلّ رئاسة جورج دبليو بوش العامة له. وفي خطوة لم يتجرأ حتى العلمانيون عليها، كان أردوغان، ومعه رئيس الجمهورية عبد الله غول، وبمعية كبير المستشارين حينها أحمد داود أوغلو، أول زعيم تركي يدعو رئيس الكيان العبري، شمعون بيريز، إلى إلقاء كلمة أمام البرلمان التركي في خريف 2007، وينال «جائزة الشجاعة» من اللوبي اليهودي في أميركا.
لا تختلف كثيراً مواقف العلمانيين والمؤسسة العسكرية وأحزاب المعارضة عن موقف الإسلاميين


ومع دخول المنطقة في حقبة ما يسمى «الربيع العربي»، كان التعاون التركي ــــ الأميركي ــــ الأوروبي كاملاً، ميدانياً ودبلوماسياً، لإسقاط النظام السوري وإضعاف إيران. ووصل الأمر إلى إعلان تركيا سوريا «عدواً»، وإلى إسقاط طائرة روسية خريف 2014. وحده الخلاف على دعم «قوات الحماية الكردية» في سوريا كان شرارة التوتر في العلاقات بين أنقرة وواشنطن، إذ اعتبرت تركيا أن كياناً كردياً على حدودها الجنوبية يشكل تهديداً لها. ومن هنا، بدأت لعبة عضّ الأصابع بين الطرفين. محاولات تركية لثني واشنطن عن دعم الأكراد، وسعي أميركي إلى تكريس انقسام سوريا منطلقاً لتقسيم المنطقة. لم تخرج تركيا من العباءة الأميركية ولم تكن هي البادئة. لكن لم يكن لها أن تقف متفرجة من دون اللجوء إلى خطوات ضغط مقابلة. فكان التهديد بشراء «أس 400» من روسيا كورقة ضغط على واشنطن منذ عهد باراك أوباما، واستمر التلويح بهذه الورقة 3 سنوات كاملة، من دون أن تغير واشنطن موقفها من الأكراد، ومن رفضها بيع تركيا منظومة «باتريوت» بدلاً من «أس 400».
في المقابل، فإن انخراط تركيا في مسار أستانا لم يكن خياراً، بل ردّ فعل على مواقف واشنطن من سوريا، وخصوصاً أكراد الشمال. لكن هذا المسار كان يحقق لتركيا من المكاسب التي لا علاقة لها بالانحياز أو الانزياح إلى الشرق. كانت المكاسب قومية تركية خالصة، قد يجد، أو يدرك، «أهل الشرق» لاحقاً خطورتها على مصالحهم أنفسهم. إذا كان «السماح» لتركيا باحتلال الشريط من جرابلس إلى عفرين فإدلب يضعف، من زاوية روسيا وإيران، الانفصالية الكردية والنفوذ الأميركي، فإن الأطماع التركية في استعادة حدود «الميثاق الملّي» لعام 1920 غير خافية، وأنقرة تجاهر بها علناً. أما مكاسب روسيا من تفاهمها مع تركيا فهي روسية خالصة، من «أس 400» إلى المفاعل النووي إلى خط النفط والغاز عبر البحر الأسود. لذلك، فإن مسار أستانا يحقق لتركيا وروسيا مكاسب عملية، بينما يقدّم مكاسب وهمية للمحور الإيراني ــــ السوري، إلى حدّ إقامة منطقة منزوعة من السلاح، لم تتحقق بعد، بين دولة، هي الدولة السورية، وبين جماعات وعصابات إرهابية تدعمها تركيا، وهذا غير مقبول ومضرّ معنوياً بالدولة السورية.
تحقق تركيا مكاسب من صحن «المشرق»، فيما لا تزال جزءاً كاملاً من الالتصاق البنيوي بالغرب:
1- اقتصادياً، ترتبط تركيا بالاتحاد الأوروبي وأميركا. 45% من تجارة تركيا الخارجية مع الاتحاد الأوروبي، و5.2% مع الولايات المتحدة. 49% من تجارة تركيا الخارجية بالدولار، و42% باليورو. 80% من الاستثمارات الخارجية في تركيا غربية، بينما قيمة التعاملات التركية بالروبل الروسي 0.1%.
2- عسكرياً وأمنياً، أكثر من 80% من سلاح الجيش التركي هو من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا.
3- وعلى الصعيد السياسي، تعرف تركيا أن كلفة الانفصال عن الغرب، بل حتى الخروج من «حلف شمال الأطلسي»، فضلاً عن مسار الاصلاحات الأوروبية وإن كان بطيئاً أحياناً ومتعثراً أحياناً أخرى، كبيرة جداً على الأمن القومي لتركيا ووحدة أراضيها، خصوصاً أن جانباً مهماً من مشكلات تركيا هو ذو طابع غربي حضاري، مثل المسألة الأرمنية وقضية قبرص والصراع مع اليونان والعلاقة المتشنجة مع الكنيسة الأرثوذكسية في إسطنبول. وهي مشكلات كانت عضوية تركيا الأطلسية ومسارها الأوروبي عاملين أساسيين في مواجهتها والحدّ من تأثيراتها السلبية عليها. كذلك، إن ارتباط تركيا بمسار المنظومة الإصلاحية الأوروبية، بما فيها العلمانية، هو الذي يوفّر لها فرصة الأخذ بعوامل التقدم والتطور بعيداً من انسداد أفق الإصلاح في العالم الإسلامي، بمعزل عن مدى التقدم التركي في هذا المجال من عدمه.
4- كما ان «حلف شمال الأطلسي» لن يسمح لتركيا، لدورها الطليعي والوازن داخل الحلف، بأن تخرج منه بسبب خلافات ظرفية أو مزاجات رئيس معيّن، سواء في «بش تبه» أو البيت الأبيض. ويمكن له أن «يصبر»، لكنه لا يمكن أن يتقبل أي انزياح تركي في هذا الصدد، ولو تطلب الأمر أكثر من محاولة انقلابية أو اغتيالات، كما حصل في 15 تموز 2016 أو حتى تنازلات كما حصل في الاتفاق الأولي على «المنطقة الآمنة» بين أنقرة وواشنطن أخيراً.
5- وفي الوقت نفسه، ليست إيران ولا روسيا بديلاً اقتصادياً مغرياً من الغرب، ولم تخرجا بعد من صورة «العدو» المتشكلة عبر التاريخ في الوعي التركي. هذا لا يعني القطيعة أو العداء معهما، فتركيا تحاول الاستفادة منهما قدر الإمكان كورقة ضغط على الغرب من جهة، ولتحقيق مصالح اقتصادية وأمنية من جهة أخرى، لكن ليس على حساب العلاقات الاستراتيجية مع الغرب (بما فيه إسرائيل).
5- لا تختلف كثيراً مواقف العلمانيين والمؤسسة العسكرية، وفي السياق أحزاب المعارضة وعلى رأسها حزب «الشعب الجمهوري»، عن موقف الإسلاميين. فالجميع مع استمرار العضوية في «الأطلسي» والعلاقات مع أميركا، واستمرار المسار الأوروبي في الإصلاح، وإقامة أفضل العلاقات مع إسرائيل، والنظر إلى إيران وروسيا كـ«خطرين وعدوين»، واعتبار المسألة الكردية داخل تركيا وشمال سوريا والعراق مسألة إرهاب وانفصال. جلّ ما أقدمت عليه المعارضة هو الاعتراض على سياسات تكتيكية لأردوغان أوصلت إلى نتائج لا تخدم مصلحة تركيا، مثل الوضع في شمال سوريا واللاجئين السوريين والخلاف مع أميركا، فضلاً عن قضايا داخلية مثل محاولات أسلمة الدولة.
لقد شهدت علاقات تركيا مع الولايات المتحدة أكثر من 12 توتراً كبيراً خلال السبعين سنة الماضية، وكانت تعود إلى طبيعتها، وكذلك الأمر مع الاتحاد الأوروبي، فيما العلاقات مع إسرائيل، رغم كل الاهتزازات، تشمل كل الصعد. في الخلاصة إن الحديث عن انحياز أو انزياح لتركيا عن تموضعها الغربي ليس واقعياً.