تشهد دول الجنوب الأميركي نشاطاً روسياً ـــ صينياً لافتاً، تنامى كثيراً في أعقاب تصاعد الهجمة الأميركية على كلّ من فنزويلا وكوبا. وعلى رغم التمايز القائم بين معالم استراتيجيتَي موسكو وبكين وأهدافهما، إلا أن كلاً من العاصمتين تسعى إلى الاستفادة من حضور الأخرى من أجل تعزيز رؤيتها، بما يصبّ في نهاية المطاف في مصلحة تقويض النفوذ الأميركي في داخل «الحديقة الخلفية» لواشنطن. ولعلّ هذا هو ما يقلق الخبراء في الولايات المتحدة الذين تتزايد تحذيراتهم من مخاطر التعاون المتزايد بين روسيا والصين في تلك المنطقة.توازى تنامي الضغط الأميركي على دول أميركا اللاتينية، الخارجة عن طاعة الولايات المتحدة، مع تعاظم حضور كلّ من روسيا والصين في تلك الدول، ليصبح واحداً من أبرز هواجس إدارة الرئيس دونالد ترامب، إلى حدّ يماثل ما كان عليه الأمر أيام نشر الصواريخ الروسية في كوبا. هذه الهواجس عبّر عنها مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، في أكثر من مناسبة، لعلّ أهمها في أواخر آذار/ مارس الماضي عندما حذّر «الجهات الفاعلة خارج نصف الكرة الغربي» من السعي إلى الحضور عسكرياً في فنزويلا. لكن التحذيرات الأميركية لم تمنع الدولتين من تعزيز وجودهما في أميركا اللاتينية، بل والتعاون على مواجهة الولايات المتحدة هناك. وهو تعاون لا يفتأ يُقلق الأخيرة، خصوصاً أنه يتركز في مجالات تجهد واشنطن للإضرار بخصومها من خلالها. ولئن اختلفت دوافع كلّ من روسيا والصين لاتباع هذا النهج، إلا أن نتيجة نشاطهما المنسّق والمشترك تصبّ في خانة واحدة، هي «الاحتواء المضاد» للأميركيين، وعبر بوابتهم الخلفية.
من الجانب الروسي، وضمن حرص الرئيس فلاديمير بوتين على إعادة رسم السياسة الخارجية لبلاده، تحضر أميركا اللاتينية بوصفها ساحة نشاط بارزة، يسهل الولوج إليها بالاستفادة من إرث العلاقة بين بلدان الجنوب الأميركي والاتحاد السوفياتي. يرى الباحث في شؤون الأمن القومي الروسي، محمد سيف الدين، أن «محاولة تطويق روسيا عبر الناتو تجعل منها أكثر رغبة في الحفاظ على موطئ قدم في أميركا الجنوبية من أجل التوازن السياسي أكثر من العسكري». ويشير، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أهمية «مزاج شعوب أميركا الجنوبية والوسطى، وذاكرتها الجماعية الرافضة للهيمنة الأميركية، التي تميل إلى الخيارات التعددية»، في تيسير الحضور الروسي. كذلك، يرى أستاذ أبحاث أميركا اللاتينية في «معهد الدراسات الاستراتيجية» التابع لكلية الحرب العسكرية الأميركية، إيفان إليس، في تقرير قُدّم إلى «البنتاغون»، أنشطة موسكو ردّ فعل على الأنشطة الأميركية مثل «توسيع حدود الناتو»، أو نشر أنظمة الدفاع الصاروخي في جوار روسيا.
تميّز التقديرات الأميركية بين نشاط كلّ من روسيا والصين في الجنوب الأميركي


أما الصين، فهي لا تنحو، عموماً، إلى ربط استثماراتها أو قروضها بمواقف سياسية آنية ومباشرة، بل تظهر ميلاً إلى التركيز على الأهداف بعيدة الأمد. في أميركا اللاتينية مثلاً، تظهر اهتماماً غير اعتيادي بالاستثمار في رواسب الليثيوم، والموجودة بكثافة في ما يعرف باسم «مثلث الليثيوم»، الممتدّ من شمال غرب الأرجنتين إلى شمال شرق تشيلي وجنوب غرب بوليفيا، علماً أنها سبق أن استخدمت قدرتها على التأثير في هذا السوق كسلاح ضد اليابان قبل نحو 20 عاماً، عندما منعت تصدير الليثيوم إلى اليابانيين لأكثر من ثلاثة أشهر. كذلك، تحتلّ الصين المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة على لائحة الدول المصدّرة إلى أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي. وبعد فرض العقوبات الأميركية على كوبا، أصبحت أهم شريك تجاري للجزيرة المعاقَبة، بعدما كانت قد وسّعت سابقاً إقراضها للحكومة الفنزويلية، لتصبح أحد أهمّ دائنيها، فضلاً عن تمويلها أخيراً، عبر «بنك التصدير والاستيراد الصيني»، أكبر حقل للطاقة الشمسية في شمال الأرجنتين.
مع ذلك، يرى سيف الدين أن «التحدّيات الكبرى على مستوى العالم، خصوصاً العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، وبينها وبين روسيا، تجعل من قضية أميركا الجنوبية واحداً من ملفات التنافس، وليست مركزاً للتنافس كما كانت أيام الحرب الباردة»، مشيراً إلى أن «الصراع اليوم متجه نحو اكتساب مجالات جديدة للاستثمار في الثروات وفي العلاقات».

استفادة متبادلة
تميّز التقديرات الأميركية، الرسمية وغير الرسمية، بين نشاط كلّ من روسيا والصين في الجنوب الأميركي. فبينما يغلب البعد الاقتصادي على استراتيجية بكين، تبدو موسكو باحثة أكثر عن تسجيل نقاط سياسية ضدّ الأميركيين، مستعيدة إرث الاتحاد السوفياتي ومستفيدة منه في الوقت نفسه. وفي هذا الإطار، يدعو إليس إلى اعتبار النشاط الروسي في أميركا اللاتينية تهديداً استراتيجياً للولايات المتحدة أكثر من النشاط الصيني، إذ إن موسكو «تملك احتياطياً أكبر في فهم السياسة في المنطقة، منذ زمن الحرب الباردة». لكن ذلك لا يمنع الخبراء من التحذير من مخاطر التعاون المتزايد بين روسيا والصين، في مقابل «عدم وجود رسالة موحدة» داخل الولايات المتحدة «بسبب الافتقار إلى التنسيق أو الاتفاق بين وكالات السلطة التنفيذية والكونغرس»، مثلما جاء في دراسة أعدّتها مجموعة من العسكريين الأميركيين ورفعتها إلى «البنتاغون» لتُنشر في عام 2019.
ولا تبدو المخاوف الأميركية بعيدة من الواقع، إذ إن كلاً من موسكو وبكين تسعى إلى الاستفادة من الأخرى في إطار استراتيجيتها في أميركا اللاتينية. فالصين، التي تخشى تقويض استقرار بلدان استثمرت فيها على مدى سنوات طويلة، تجد في روسيا شريكاً مناسباً لحماية تلك المصالح عبر توفير الغطاء السياسي، أو حتى العسكري، لها، بطرق مختلفة، فيما يعتقد الجانب الروسي، الذي لا يبحث بشكل رئيس عن شراكات اقتصادية مع أميركا اللاتينية، ولا يقلقه بالتالي التوسّع الصيني في هذا المجال، أن بإمكانه الاستعانة بالصين في محاولة احتواء النفوذ الأميركي عن قرب. وعلى رغم أن روسيا لا تملك مصالح حيوية يمكن تهديدها في أميركيا اللاتينية مثلما يذكر التقرير المُقدَّم إلى «البنتاغون»، إلا أنه يرجح التزامها استخدام حق النقض في الأمم المتحدة، إلى جانب الضغط الدبلوماسي والقروض وغيرها من أدوات المساعدة، للدفاع عن الأنظمة الصديقة لها في فنزويلا ونيكاراغوا وكوبا، بل إن «تدخلاً عسكرياً تقوده الولايات المتحدة يمكن أن يدفعها إلى الانضمام إلى كوبا في دعم المجموعات الموالية لنيكولاس مادورو، وخوض حرب عصابات طويلة ضد خوان غوايدو المدعوم أميركياً»، بحسب إليس. وفي الاتجاه نفسه، يعتقد سيف الدين أن «الجانب الروسي متمسك بالخيارات الاستراتيجية للقيادة الفنزويلية أكثر مما تتصور الإدارة الأميركية. وهذا التمسك قد يصل إلى استخدام كل الوسائل للدفاع عن الدولة».