شهدت الساحة السياسية والحزبية الإسرائيلية مرحلة جديدة من التشكل لها سياقاتها ومعالمها الجديدة، وقد تمثلت في تبلور «تكتل يميني مهيمن» على الساحة السياسية منذ نحو عقد بدلاً من الحزب المهيمن الذي اتسمت به إسرائيل طوال عقود. أتى هذا التحول بعد محطات ومراحل مرت بها المنظومة الحزبية، أبرزها هيمنة الحزب العمالي («مباي»، ثم بأسماء أخرى: «معراخ» و«العمل») التي استمرت نحو ثلاثة عقود منذ ما بعد إقامة إسرائيل عام 1948، ثم تشكلت حالة من الاستقطاب الثنائي بفعل صعود تيار اليمين برئاسة حزب «الليكود»، وتشكل تنافس بين معسكرين خلال ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته. أفول ظاهرة الحزب المهيمن في الساحتين السياسية والاجتماعية عكسته بوضوح نتائج الانتخابات العامة خلال أكثر من عقدين. مع ذلك، التف «الليكود» في ممارسة هيمنته وبات يمارسها مع حلفائه وعبرهم في تكتل اليمين الذي يترأسه. ونجح في ذلك منذ توليه رئاسة الحكومة عام 2009. في المقابل، تمكن زعيم الحزب، بنيامين نتنياهو، من أن يمارس هيمنته على المشهد السياسي بقدرٍ ما عبّر هذا التكتل أيضاً، حتى باتت الانتخابات تتمحور حول شخصه، وحول توليه تحديداً رئاسة الحكومة، أكثر من أولوية أن يكون «الليكود» هو «الحزب الحاكم» بغض النظر عمن هو رئيسه. ظهر ذلك بوضوح في توقيع مرشحي قائمة «الليكود» على تعهد بألا بديل منه لرئاسة الحكومة، وهو ما سبق أن تسبب في إدخال «دولة» إسرائيل في انتخابات عامة كان يمكن تفاديها بأكثر من سيناريو، لكن على قاعدة «أنا أو لا أحد»، ما دفع نتنياهو نحو انتخابات جديدة منعاً لتشكيل الحكومة على يد شخصية أخرى، سواء من داخل حزبه أم من خارجه.
تقاطعت مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي أسهمت في تمتين أواصر العلاقة بين هذا التكتل الحاكم لإسرائيل منذ أكثر من عقد، من ضمنها الوعي الجمعي الذي تبلور على خلفية تجارب سابقة، وهي أن إسقاط حكومة يمينية من أحد أطرافها أدى أكثر من مرة إلى انتقال السلطة إلى «العمل»، وهو ما حدث مع نتنياهو أيضاً في 1999، عندما أدى خلاف داخل معسكر اليمين إلى انتخابات مبكرة فاز بموجبها إيهود باراك برئاسة الحكومة. نتيجة هذه السوابق، تبلور رأي عام يميني ينظر إلى كل من يتسبب في تصدع معسكر اليمين وإسقاط حكومته على أنه خيانة، وهو بالضبط ما يحاول نتنياهو وصم أفيغدور ليبرمان به، نتيجة تسبب الأخير في إزاحة نتنياهو عن تشكيل حكومة يمينية برئاسته، ثم انتخابات جديدة.
باتت الانتخابات تتمحور حول شخص نتنياهو أكثر من أولوية «الليكود»


لا ينبغي أيضاً إغفال حقيقة أخرى هي أن السياق الإقليمي والدولي مساعد لليمين ولنتنياهو، وهو ما نلحظه في أكثر من محطة. العنوان الأبرز لذلك يتمثل في الدعم الكبير الذي قدمه ويقدمه إليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والعلاقة الخاصة التي تربطه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو على الأقل هكذا يجري تظهير الأمر في الساحة الإسرائيلية. أضف إلى أن الانفتاح الخليجي على إسرائيل، في ظل حكومة يمينية استيطانية متشددة ضد الفلسطينيين، عزّز الانطباع لدى الجمهور أن تل أبيب لا، ولن، تدفع أثماناً مؤلمة بفعل السياسات التي يعتمدها نتنياهو، بل تحظى بترحيب خليجي ودولي، وهو ما لخصه الصحافي المختص في الشؤون العربية تسافي يحزقيلي في القناة الـ13 في التلفزيون الإسرائيلي، بالقول: «من كان يصدق أن أمراء سعوديين يزورون نتنياهو في مكتبه، وأن يجاهر مدوّنون سعوديون يقولون إن نتنياهو قائدهم... الشرق الأوسط يتغيّر من أقصاه إلى أقصاه، الإيرانيون عدوّنا، وكل بقية السنّة أصدقاؤنا (كأن فصائل المقاومة الفلسطينية ليسوا من السنّة). في نهاية الأمر مفهوم نتنياهو هو الذي انتصر».
الحقيقة التي لا جدال فيها داخل الساحة الإسرائيلية أن أداء الأنظمة العربية يسهم مباشرة في تعزيز حكم اليمين المتطرف في إسرائيل، حتى وصل الأمر بنتنياهو إلى أن يتفاخر في كل مناسبة بأنه يفهم الحكام العرب أكثر من بقية القادة الإسرائيليين، والدليل أنه استدرجهم إلى العلاقات من دون تقديم أي أثمان فلسطينية، وتحالف معهم على قاعدة مواجهة العدو المشترك المتمثل في إيران ومحور المقاومة. مع ذلك، تبقى حقيقة هي الأساس في بلورة هذا التكتل الذي نجح حتى الآن في الهيمنة على الساحة الإسرائيلية منذ نحو عقد، وهي حدوث تحولات اجتماعية وسياسية تتغذى بالعوامل المشار إليها.
أبرز هذه التحولات وجوهرها صعود يمين بديل من اليمين التقليدي الذي كان يعبّر عنه «الليكود» تاريخياً (يضم أحزاب الحريديم وأحزاب الصهيونية الدينية والمستوطنين واليمين الجديد، وأعضاء الكنيست المتطرفين من «الليكود»). ويستند هذا اليمين البديل إلى تحول المجتمع الإسرائيلي إلى كونه أكثر تديناً ومحافظة، ودخول الشرقيين من هامش المجتمع إلى نادي النخب التي كانت حكراً على الأشكناز، إضافة إلى زيادة قوة المستوطنين في مقابل أفول متواصل للنخب التقليدية للصهيونية، بما فيها اليمين التصحيحي بصيغته الجابوتنسكية (نسبة إلى زئيف فلاديمير جابوتنسكي، مؤسس الحركة التصحيحية الصهيونية، اليمين الصهيوني) الذي يعتبر بالمعايير الإسرائيلية «اليمين العقلاني». تتميز القواعد الاجتماعية لهذا التكتل بوجود مساحة مشتركة واسعة بينها على المستويين السياسي والأيديولوجي. ونتيجة ذلك، تمحور التنافس الانتخابي الرئيسي بين أحزاب هذا التكتل، حتى بدت الانتخابات في جوهرها انتقال كتل من الأصوات من هذا الحزب اليميني إلى الحزب اليميني الآخر، وهو ما عزز قدرته على الإمساك بالسلطة، وقلص احتمالات انتقالها إلى معسكر آخر.
المستجد الذي استطاع حتى الآن هزّ هذه المعادلة تمثل في نجاح حزب «إسرائيل بيتنا»، برئاسة ليبرمان، في منع تشكيل هذا التكتل لحكومة يمينية، والخوف السائد لدى التكتل من أن ينجح في استقطاب شريحة محددة من القاعدة الاجتماعية التي يستند إليها اليمين، ثم توظيف ذلك في الضغط باتجاه بلورة تكتل جديد يحكم إسرائيل، ويستند أيضاً إلى «الليكود» وبعض حلفائه دون الحريديم. مع ذلك، تبقى حقيقة ينبغي تثبيتها، وهي أن الصراع الداخلي كان وما زال متمحوراً داخل اليمين، لكن السؤال وفق أي نسخة، وبرئاسة من؟