السبب الرئيس والمباشر للمواجهة الأميركية ــــ الإيرانية مرتبط بدور طهران المركزي، إلى جانب أطراف محور المقاومة، في السعي إلى تغيير ميزان القوى العسكري والاستراتيجي لغير مصلحة إسرائيل. لكنّ لهذه المواجهة أسباباً أخرى، ذات أهمية استراتيجية وثيقة الصلة بالسياق الدولي المستجد، الذي يشهد تصاعداً لـ«التنافس بين القوى العظمى»، أي بين الولايات المتحدة من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى. الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ إدارة جورج بوش الابن، مروراً بإدارة باراك أوباما، وصولاً إلى إدارة دونالد ترامب، اعتبرت جميعها أن تطور العلاقات الصينية ــــ الإيرانية يشكل تحدّياً مستقبلياً كبيراً بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وعندما وقّعت إدارة أوباما الاتفاق النووي مع إيران، رأى كثيرون أن هدفها «فك اشتباك» بين البلدين، لتستطيع الإدارة من بعده التركيز على الأولوية التي حدّدها الرئيس الأميركي السابق في خطابه الشهير الذي أعلن خلاله «الاستدارة نحو آسيا»، وهي احتواء الصين. غير أن الغاية الإضافية لتوقيع الاتفاق، كانت الحدّ من تنامي التعاون الصيني ــــ الإيراني، خصوصاً في مجال الطاقة، عبر تطبيع العلاقات الأميركية والغربية مع إيران. لكن التناقضات الملازمة لعملية صنع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، وضغوط اللوبي الإسرائيلي، منعت من بلورة سياسات منسجمة مع هذا التوجه الاستراتيجي. لم يجرِ تطبيع فعلي للعلاقات بين واشنطن وبقية عواصم الغرب وطهران، ووصلت الأمور إلى ما وصلت إليه بعد انتخاب ترامب. حربه على إيران إسرائيلية، غير أن «البعد الصيني» الذي أقلق أوباما أضحى خطراً استراتيجياً من منظور ترامب. فقد تزايدت حدة الصراع الصيني ــــ الأميركي نتيجة لسياساته، بموازاة ارتفاع حدة ذلك الدائر مع إيران، ما وفّر دافعاً إضافياً مهماً لتعزيز التعاون بين البلدين. وهو اليوم بين الخلفيات التي تفسّر استهداف الجمهورية الإسلامية.
إيران احتياطي آسيوي استراتيجي للطاقة
استندت الهيمنة الأميركية على العالم، منذ الحرب العالمية الثانية، إلى ركيزتين أساسيتين: التفوق العسكري النوعي على القوى الدولية الأخرى، والسيطرة على القسم الأعظم من منابع النفط في العالم، من خلال الوجود العسكري المباشر في البلدان المنتجة أو في جوارها. وحرصت الولايات المتحدة على التحكم بغالب الطرق البحرية والمضائق التي يتدفق عبرها النفط من الدول المنتجة إلى تلك المستهلكة. التفوق العسكري النوعي يتراجع مع تعاظم القدرات العسكرية والتكنولوجية للقوى غير الغربية، الدولية والإقليمية، الصاعدة على صعيد عالمي. ويشي بناء شراكات جديدة بين دول العالم غير الغربي، وبعضها في ميدان الطاقة، بفقدان تدريجي للقدرة على التحكم بمصائر عدد من الدول النفطية من قِبَل واشنطن. لم يكن سراً أنّ الصين، خصوصاً منذ اعتماد أوباما خيار الاحتواء حيالها، وهو خيار «بحري» أساساً، أصبحت تفضل استيراد النفط والغاز عبر الطرق البرية من خلال بناء شبكات الأنابيب، على استيراده عبر الطرق البحرية من خلال الناقلات. الطرق البحرية إلى الصين لا تزال بمعظمها واقعة تحت السيطرة الأميركية. الواقع مختلف جذرياً براً. أغلب دول آسيا الوسطى النفطية، وكذلك إيران، شركاء للصين في مجال الطاقة غير خاضعين للسيطرة الأميركية. والغاية الأولى الحقيقية وغير المعلنة لمشروع «حزام واحد، طريق واحد» مواجهة خطة تطويق الصين عبر البحار لحرمانها الطاقة، إن اقتضت ضرورات المواجهة ذلك بالنسبة إلى الولايات المتحدة، عبر توفير مصادر بديلة للطاقة من دول الجوار المباشر أو القريب. الناظر لشبكة الأنابيب التي تريد الصين إقامتها في إطار المشروع العتيد يدرك حيوية بعد الطاقة في إطاره. وإيران، لكونها دولة مستقلة، من أبرز الشركاء في هذا المشروع، وينظر إليها في الصين، وفي الهند ودول آسيوية أخرى، على أنها احتياطي آسيوي استراتيجي للطاقة خارج دائرة النفوذ الأميركي.
روبرت كابلان، أحد الخبراء الأميركيين البارزين في الشؤون الجيوستراتيجية، لفت في مقال في «نيويورك تايمز» بعنوان «الأمر لا يتعلق بإيران بل بالصين»، إلى أن «ما يجري في الخليج يكتسب معنىً مختلفاً في ضوء وقائع الجغرافيا: التوتر الحالي لا يتمحور حول إيران والخليج الفارسي، بل حول الصين والمحيط الهندي... حرب أميركية على إيران ستدفعها أكثر في أحضان الصين التي تستورد حالياً ثلث صادرات إيران في مجال الطاقة. وحتى لو تأثرت هذه العلاقات بين البلدين نتيجة لعقوبات إدارة ترامب، وكذلك لتعقيدات المفاوضات التجارية بين بكين وواشنطن، فإن الصين وإيران ستجدان طرقاً للتعاون والتحايل على الولايات المتحدة. إيران في قلب الجغرافيا السياسية للقرن الواحد والعشرين. هي تهيمن على طرق تجارة آسيا الوسطى وتقع فوق مخزون هائل للهيدروكاربون على ضفاف المحيط الهندي، وتمتد حدودها البحرية إلى نحو 1500 ميل من العراق إلى باكستان. هي المفتاح بالنسبة إلى المشروع الصيني الذي يشكل بدوره مفتاحاً لمستقبل أوراسيا». ينصح كابلان إدارة ترامب بالتفاوض مع إيران، من دون التوقف عن ممارسة الضغوط عليها، للتوصل إلى تسوية معها تسمح بإبعادها عن الصين. على الأرجح، لن يستمع أيٌّ من أقطابها إلى نصائحه. لكن مقاله يسلط الضوء على بعد إضافي يفسر الكراهية المستشرية لإيران في أوساط النخب السياسية الأميركية، داخل إدارة ترامب وخارجها.