عاد الهدوء الحذر إلى شوارع فلسطين المحتلة، بعدما انتفض لأكثر من ثلاثة أيام يهود إسرائيليون من أصول إثيوبية على السلطات، إثر مقتل الشاب سولمون تاكا برصاص شرطي إسرائيلي. هدوء ولّدته دعوة عائلة القتيل، المحتجّين، إلى وقف الاحتجاجات ضد الشرطة في الوقت الحالي، ريثما تنتهي التحقيقات في مقتل ابنها. ولئن اندلعت الاحتجاجات على خلفية حادثة القتل، إلا أن الأخيرة بدت أقرب إلى «قطرة الماء التي أفاضت الكأس». فالجالية التي استجلبتها إسرائيل من إثيوبيا بدءاً من عام 1973، بهدف التغلّب على النمو الديمغرافي للفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1948، عانت من مختلف أشكال التمييز على المستويات كافة، علماً بأنّ عديد هذه الجماعة التي تُعرف بـ«الفلاشا» بلغ نحو 144 ألفاً، بحسب السلطة المركزية الإسرائيلية للإحصاء. بشرة هؤلاء الملوّنة كانت، بالنسبة إلى المجموعات اليهودية الأخرى، سبباً كافياً كي تنظر إليهم بدونيّة وتعاملهم بعنصرية، ولا سيما أن هناك اختلافاً جوهرياً بين «الحاخامية الأشكنازية»، و«الحاخامية السفاردية» في شأن يهودية الجالية الإثيوبية، وما إن كان أفرادها ينتسبون حقاً إلى «سبط دان»، أحد «الأسباط اليهودية العشرة المفقودة». وفيما اعتبرهم الحاخام «السفاردي» الأكبر، عوفاديا يوسف، يهوداً، فُرضَ على عشرات الآلاف منهم أن يعبروا مرحلة «الغيور» أو التهوّد، لكن بقي يُنظر إليهم على أنهم غير متدينين، بالنظر إلى أن عاداتهم تشبه إلى حد بعيد عادات العلمانيين اليهود. أما الحاخام الأكبر لـ«الأشكناز»، شلومو غورين، فقال إنهم ليسوا يهوداً «لأسباب دينية وجينية»، معللاً رأيه بأنْ «لا يوجد يهود ذوو بشرة سوداء».
ولأن استجلابهم كان جماعياً، أُسكنوا في مراكز الاستيعاب، وتعاملت معهم السلطات كفئة اجتماعية متمايزة، إذ قسّمتهم إلى جماعات وفق اعتبارات العُمر وصلة القرابة والجنس. وأُلحق أولادهم بالتعليم الحكومي من دون استئذان ذويهم. هناك، عانوا تمييزاً صارخاً، لدرجة أن بعض المدارس رفضت استقبالهم، فيما عمد عدد من ذوي الطلبة الآخرين إلى إخراج أبنائهم من المدارس بحجة أنهم لا يريدون اختلاطهم بذوي الأصول الإثيوبية. كل ذلك عزّز صعوبة التأقلم والاندماج مع المجتمع الذي يعاني أصلاً من تصدعات في داخله. ومع مرور الوقت، اتضح أن الوافدين أكثر تمسّكاً بهويتهم الثقافية الإثيوبية من الهوية الإسرائيلية، وأنهم على رغم خدمتهم في الجيش الذي يجمع شرائح المجتمع كافة ظلّوا يُعامَلون بتمييز، إلى حدّ إتلاف وحدات الدم التي يتبرّعون بها، وإلقائها في القمامة أو الصرف الصحي، بدعوى حملهم فيروسات معينة، مثل الإيدز وجنون البقر والإيبولا «أكثر من غيرهم لأنهم جاؤوا من إفريقيا». حتى الإثيوبية بونينا تامانو، لم يشفع لها كونها نائبةً في الكنيست الإسرائيلي دون أن يُرمى دمها في القمامة، في حادثة لا تزال تتردد تداعياتها.
وصف بعض الإسرائيليين المحتجّين بأنهم حيوانات جُلبت من غابات إفريقيا


حتى اليوم، لم يتغير واقع هؤلاء. فلا يزالون يسكنون في ضواحي المُدن الكبيرة وأطرافها، في بيوت بعضها من الصفيح. كذلك يعمل قسمٌ كبير منهم في مهن يُصنفها المجتمع الإسرائيلي «مهناً وضيعة»، مثل التنظيف والبناء وجمع القمامة والرعي وغيرها. كذلك، لا يزالون يقتلون بسبب لون بشرتهم، التي كانت في أحيان كثيرة سبباً في شكّ الجيش أو الشرطة الإسرائيليين في أن أصحابها عرب، بما يبرّر قتلهم لأتفه الأسباب! على هذه الخلفية، إنّ مقتل سولومون، الذي يُضاف إلى 11 حادثة مشابهة، فجّر مكامن الغضب بين أبناء الجالية، وأدى إلى انقلاب الشوارع الإسرائيلية إلى ما يُشبه ساحات حرب، حيث أُخذ أكثر من 70 ألف إسرائيلي «رهائن»، بحسب التسمية التي أطلقها وزير الأمن الداخلي، غلعاد إردان، إثر إغلاق ذوي الأصول الإثيوبية الطرقات لأكثر من 5 ساعات.
صحيفة «هآرتس» وجّهت سؤالاً إلى عدد من المحتجين، مفاده: «لماذا تتظاهرون؟ وماذا تنشدون؟»، فجاءت الإجابات تعبيراً عن الخوف من أن يكون أصحابها الضحايا القادمين للعنصرية. بعض الأمهات قلن إنهن «يخفن على حياة أولادهن، بسبب احتمال أن يُقتلوا برصاص الشرطة». البعض تحدث أيضاً عن عدم ثقته بتحقيقات هذه الشرطة «التي توفر لقاتل سولومون حماية أمنية وفندقاً ينام فيه خلال قضائه الإقامة الجبرية»، فيما انتقد آخرون صمت بقية الإسرائيليين وعدم وقوفهم إلى جانب ذوي الأصول الإثيوبية في احتجاجاتهم، بل وذهاب عدد منهم إلى وصف المتظاهرين بـ«الحيوانات المستجلبة من غابات إفريقيا، والتي بفضل إسرائيل أصبحت من المواطنين».
في الصورة العامة، تعكس تجربة «الفلاشا» في إسرائيل واقع مجتمع عنصري مأزوم، وهي تثبت أن استجلاب أناس من بقاع بعيدة لجعلهم مواطنين في خدمة مشروع سياسي، من دون أن يكون لهؤلاء ارتباط حقيقي بالمشروع، يفعل فعله على المدى البعيد في صراع الهويات الدائر على حسم من هو الأكثر يهوديّة ويمينية. وربما كانت الرسالة التي خطّها المحتجون على جدار «الموت للعرب» خير دليل على فهمهم لكيفية تدرّج «الإسرائيلية»، وأن مفتاح الرتبة العليا في هذا المجتمع هو دمُ العرب والفلسطينيين.