«الحريديم» في إسرائيل، بنسختهم الحالية، هم نتاج صراع تاريخي بين اليهود أنفسهم من جهة، وبينهم وبين «الأغيار» من جهة أخرى، سواء الوثنيين (والمسيحيين)، أو الإسماعيليين (المسلمين)، أو مَن قبلهم من أمم وإمبراطوريات، في ما يعرف بالثورات والانتفاضات اليهودية، التي كانت تنتهي بكوارث على اليهود، ليس في فلسطين فحسب، بل أيضاً في مختلف أنحاء العالم. كارثة تلو كارثة دفعت إلى الابتعاد عن طلب الانتظام السياسي، وربطه بالدولة التي يقيمها المسيح في المستقبل، الذي لا يُعرف إن كان قريباً أو بعيداً. في الوقت نفسه، عمّق القيّمون في حينه على التجمعات اليهودية الانعزال عن الأغيار، وتحديداً عن المحيط المسيحي، لمنع إمكانية الإذابة في محيط بات مغرياً قياساً بما كان عليه في الماضي، وخاصة أن الإذابة هنا لا تتعلق باعتناق الدين المسيحي، وإن شهدت الجماعات اليهودية شيئاً منه، بل بالأفكار التي تولّدت في أوروبا، ودعت إلى الابتعاد عن الدين بوصفه ديناً، أي إلى تأليه من نوع آخر، يتيح الحفاظ على الهوية الدينية شكلاً، والذوبان في عقائد وأيديولوجيات مختلفة غزت أوروبا. وذلك واحد من أهم الأخطار التي عُدّت من ناحية المتدينين تهديداً كبيراً للدين والهوية اليهوديّتين.إلا أن التهديد الأكبر جاء على يد اليهود أنفسهم، مّمَن رأوا ضرورة السعي إلى إقامة دولة يهودية، وهم الصهاينة. وهو ما تعامل معه الحاخامات على أنه تعبيد للطريق أمام كارثة جديدة ستحلّ باليهود. وهذا الرفض، الذي بُني على تأصيل ديني امتدّ قروناً، كان صلباً إلى الحدّ الذي دفع كل التيارات الدينية إلى الاتحاد للمواجهة، والحؤول دون تأسيس الدولة التي تعمل على مصادرة الحق الإلهي، واستباق ظهور المسيح المناطة به، هو تحديداً، إقامة الدولة. من هنا، ظهر التمايز بين الطامحين إلى الدولة، أي الصهاينة، والمتطلّعين إلى الحؤول دونها، وفي المنتصف عامة اليهود، الذين يُسمّون التقليديين، وينتظرون غلبة أي من الطرفين.
الظرف التاريخي ساعد، بطبيعة الحال، الصهيونية على النجاح؛ نتيجة عوامل عدة، من بينها إرادة أوروبية في التخلص من اليهود وتأسيس دولة تجمعهم، تكون في المقابل تابعة ووكيلة في منطقة مهمة جداً هي الشرق الأوسط، وكذلك إرادة يهودية نخبوية في تأسيس دولة بناءً على النظرة القومية للدين اليهودي، فكان الاختيار فلسطين، بوصفها أرضاً جاذبة لليهود ربطاً بتاريخها. ومع تقدم المحطات التاريخية، انشقّ عن المتدينين مَن وجد أن الدولة ممكنة في فترة ما قبل ظهور المسيح، فعمد إلى التوليف بين المحذور الديني والممكن المادي، فوافق على الدولة اليهودية باعتبارها مقدمة لدولة المسيح، ورفع من شأنها إلى الحد الذي أفتى فيه بإمكان بذل الدم والمال لإقامتها والحفاظ عليها. وهؤلاء عُرفوا ولا يزالون بالمتدينين القوميين، أو المتدينين الصهاينة.
لا خلاف بين الصهاينة و«الحريديم» على هوية الأرض الفلسطينية


في المقابل، سار معظم المتدينين على عقيدة السلف في رفض التعدي على الحق الإلهي، وحذّروا من الكوارث التي تنتج من محاولة تأسيس هذه الدولة، فحاربوها قبل أن تلد، وكفَّروا كلّ من وما يتصل بها. إلا أن للنجاح ثمناً، كما أن للخسارة أيضاً تداعيات. وفي الواقع، خسر المتدينون المعركة على الممكن يهودياً، بعدما نجح الصهاينة في إقامة الدولة، ما أدى لاحقاً إلى إيجاد توليفة بين الرفض والقبول، تتيح مدّ اليد إلى الصهاينة، وفي الوقت نفسه رفضهم. وهذه التوليفة تختلف من تيار ديني وآخر، بمعنى أن منهم من يقبل بوجود إسرائيل بوصفها دولة كسائر الدول، لكنها أكثر أماناً لليهود من غيرها، وآخرون يعتقدون أنها دولة يهودية تحتاج إلى تصويب وتغيير وتهويد حسب الشريعة، إضافة إلى ما بين الموقفين من أفكار ورؤى يتعذر حصرها، أبرزها تلك التي تتبنّاها جماعات متشددة في رفض الدولة كجماعة «ناطوري كارتا».
ومنعاً للالتباس، الذي قد يكون تكوّن لدى بعض القرّاء على ضوء حلقات السلسلة السبع، تجب الإشارة إلى الآتي: لا يختلف «الحريديم» عن أقرانهم من الإسرائيليين في أن فلسطين «حق» لليهود، وأن الفلسطينيين عنصر طارئ عليها ويجب عليهم الرحيل عنها. إلا أن الاختلاف يكمن في توقيت الاستيلاء على هذه الأرض: الآن أو لدى ظهور المسيح. كذلك، تتّحد نظرة «الحريديم» إلى «الأغيار» مع النظرة العلمانية في كثير من وجوهها، إلا أنها أشدّ تطرفاً. وفي كتب «الحريديم» التعليمية، لا يوجد فلسطينيون ولا قضية فلسطينية، بل أناسٌ من شعوب أخرى تسكن أرضاً يهودية، لم تُسترجع بعد. ويتخذ العداء للفلسطينيين لديهم بُعداً ما ورائياً يتعذر معه إيجاد تسوية ما، حتى في زمن ما قبل ظهور المسيح، إذ إن فلسفة «الانتظار» لا تعني القبول بالتنازل عن أرض استُرجعت، حتى وإن استُرجعت من قبل الصهاينة خلافاً للأحكام الشرعية. وبناءً على هذا التأسيس، يدرس الأطفال «الحريديم» في المرحلة الإعدادية أن الصهاينة الأشرار تنازلوا للفلسطينيين الإرهابيين بموجب «اتفاقية أوسلو» عن أرض يهودية، وجلبوا الإرهاب إلى أرض اليهود، ويجب العمل على منع تكرار ذلك. ومن هنا، يأتي الموقف اليميني المتطرف في مؤسسات الحكم وفي الكنيست والحكومة. ومن هنا أيضاً، يأتي التصويت الدائم بالإيجاب على ما يتعلّق بسلب الحقوق الفلسطينية والعربية، أو ترسيخ ما سُلب منها، ومنع التنازل عنه.
في المحصلة، لا خلاف بين الصهاينة و«الحريديم» على هوية الأرض الفلسطينية، وأنها تعود إلى اليهود حصراً. ولا خلاف على ضرورة طرد الفلسطينيين منها، وإن مع فارق زمني لجهة تنفيذ الطرد، ما يعني أنه ليس بينهم خلاف في النظرة الفوقية إلى الغير، لكن الفارق أن تلك النظرة أكثر تجذراً لدى «الحريديم»؛ كونها لا تقتصر على «الأغيار» وحسب، بل تشمل أيضاً كل من هو غير «حريدي»، حتى وإن كان يهودياً.