ينقسم المجتمع «الحريدي» إلى فرق ومذاهب وطرق، تعكس رؤىً ومباني فقهية واجتماعية مختلفة، تتصل بمناحي الحياة كافة، بما فيها المأكل والملبس والتعامل مع الآخر. ومن بين تلك الفرق تبرز ثلاث: «الحسيديم» و«الليتوانيون» و«السفارديم» (الحريديم الشرقيون). وقع الانقسام بين «الليتوانيين» و«الحسيديم» (اليهود الأشكناز في شرق أوروبا) نتيجة لتطورات شهدها شرق القارة خلال القرن الثامن عشر، وأثّرت في الجماعات اليهودية التي انتفضت على الطبقة الدينية رفضاً لسيطرتها المطلقة على مقدّرات الجماعة اليهودية. نشأت «الحسيدية» في ذلك الوقت كحركة اجتماعية تمرّدت على النخبوية الدينية لعالم الحاخامات وحكماء التوراة. وقد كان الاختلاف الأول بين التيار السائد والتيار الجديد المنتفض، اقتصادياً اجتماعياً بشكل أساسي، ربطاً باقتصار دراسة التوراة على النخبة، فيما عامة اليهود بعيدون عنه نتيجة العوز المادي.أسّس الحركةَ «الحسيدية» بعل شم طوف، الذي عانى وأتباعه من اضطهاد الحاخامات وتكفيرهم لهم، إلا أن حركته جذبت على رغم ذلك عدداً كبيراً من يهود شرق أوروبا، حتى باتت تياراً واسع النطاق. بالطبع، لا يخرج «الحسيديم» عن الشريعة اليهودية، لكنهم يفسّرون الأحكام بطريقة مغايرة لما كان سائداً لدى اليهود تقليدياً، مع نظرة صوفية للذات الإلهية والخلق وتأويل النص، إلى حدّ يخرج الأخير تماماً عن معناه الحرفي ودلالاته اللغوية وسياقه التاريخي. يرفض «الحسيديم» الطبقية الدينية، ويطلبون البساطة والتواضع، ويرفعون التقليد الجاري والعادات إلى مرتبة الأحكام. وعلى هذه الخلفية، طردت مدرسة تابعة لإحدى الطرق «الحسيدية» معلمة بعدما تجاوزت الشريعة واستحصلت على رخصة قيادة سيارة (هآرتس 30/08/2016).
المعارضة للتيار «الحسيدي» قادها الحاخامات التقليديون، وتحديداً غاون إلياهو، من مدينة فيلنا الليتوانية. أنصار إلياهو كانوا في البداية يُعرفون بـ«المتنغديم»، أي المعارضين، لكن تسمية «الليتوانيين» غلبت عليهم في النهاية، ربطاً بأصول إلياهو الليتوانية. انتقل «الحريديم الأشكناز»، بـ«ليتوانيّيهم» و«حسيديّيهم» إلى فلسطين المحتلة، وهم الآن يمثلون الثقل الأكبر لدى «الحريديم»، بما يصل إلى 70٪: 30٪ لـ«الحريديم الليتوانيين»، و40٪ لـ«الحسيديم»، فيما يمثّل «السفارديم» (الحريديم الشرقيون) النسبة الباقية، وهم الفئة الثالثة من «الحريديم» المتحدّر منتموها من إسبانيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واليهودية كما يؤمنون بها هي نسخة تقليدية من الدين اليهودي.
لا يخرج «الحسيديم» عن الشريعة اليهودية، لكنهم يفسّرون الأحكام بطريقة مغايرة


نمت الأرثوذكسية الشرقية، أي «الحريديم السفارديم»، في خمسينيات القرن الماضي. فبعد قدومهم من الدول العربية والشرق الأوسط عموماً مع إقامة الكيان الإسرائيلي، انتسب المتدينون منهم إلى المعاهد الدينية لـ«الأشكناز»، التي كانت تنشط في فلسطين المحتلة حتى قبل عام 1948. وعلى رغم استيعابهم أسلوب حياة الطلاب «الأشكناز»، وتعلّمهم اللغة «اليديشية»، والتزامهم اللباس المعتمد لدى «الليتوانيين»، إلا أنهم ووجهوا بالرفض اجتماعياً من قِبَل «الأشكناز الحريديم»، وعانوا من النبذ النسبي. ومع أن الظرف والإرادة كانا متوافرين حينذاك لتشكيل إطارهم الخاص، لكن ذلك لم يتحقق إلا في ثمانينيات القرن الماضي، ضمن حزب «شاس» للشرقيين من «الحريديم»، علماً أن الفئة «الحسيدية» من «السفارديم» منقسمة بين «شاس» و«أغودات يسرائيل». ويرتدي الشرقيون ملابس سوداء وبيضاء وقلنسوات سوداء، لكنهم يظلّون متسامحين في الزيّ والمظهر الخارجي قياساً بغيرهم من المذاهب «الحريدية»؛ إذ إن بعضهم يرتدي ملابس عادية، مثل بنطال «جينز» وقميص ملون مع قلنسوة سوداء، أو قبعة صوفية كبيرة.
بالعودة إلى «الليتوانيين»، فهم يواصلون حياتهم في إسرائيل وفقاً لنمط الحياة الذي كان سائداً في نهاية القرن الثامن عشر في بولندا وليتوانيا وغيرهما من دول شرق القارة الأوروبية. وأفضل الأعمال لديهم، دراسة التوراة، المعيار المركزي لدى الجماعة، والتي يحدد مستواها الوضع الاجتماعي لليهودي. على هذه الخلفية، يجري تنظيم العالم «الليتواني» حول المعاهد الدينية (اليشيفا) «الليتوانية». وهذه واحدة من أهم الخلافات بينهم وبين «الحسيديم»، من دون أن يعني ذلك إهمال دراسة التوراة لدى «الحسيدية»، التي ترأى أن الرب يحبّ شعبه (اليهود) بغضّ النظر عن مستوى التمعن في دراسة التوراة. ويرتدي «الليتوانيون» ألبسة موحّدة غير بعيدة تماماً عن الحداثة، ولكن ضمن محدّدات، ومنها البنطال الذي يشترط أن يكون أسود اللون، مع قلنسوة وقبعة سوداوين كذلك، و«جاكيت» عصرية داكنة، وفي بعض الأحيان سترة تحت السترة مع قميص أبيض وربطة عنق، وحذاء أسود مع أربطة، ولحية مخططة عادة ما تكون قصيرة.
لدى «الحسيديم»، المظهر الخارجي مغاير لِما هو عليه لدى «الليتوانيين». إذ يرى الأوّلون أن زيّهم تعبير عن التقوى، وعلى هذه الخلفية يمكن تمييزهم من زيّهم الفريد. ومع أن لكل طريقة «حسيدية» زيّاً خاصاً بها، يرتبط بالذي كان سائداً في المناطق والمدن الأوروبية الشرقية حيث النشأة قبل مئتي عام، إلا أنه في العموم، يمكن القول إن الزي «الحسيدي» يشبه ما كان عليه زي النبلاء قبل قرنين في بولندا وليتوانيا وهنغاريا وبلغاريا وغيرها. والجدير ذكره، هنا، أنه يصعب تحديد الطرق والمذاهب في التيار« الحسيدي»، التي تقدّرها الدراسات الاستقصائية بما يزيد على 160 حركة وطريقة في إسرائيل وحدها، عدا «حسيديّي» الخارج.
يتداول الباحثون الإسرائيليون طرفة ذات دلالة على رفض الآخر في أوساط «الحريديم»، فيقولون إن الإجابة عن سؤال يتعلق بعدد طرق «الحسيديم» ومذاهبهم ترتبط بالشخص الذي يُوجّه إليه السؤال: إن كان «حسيدياً»، فسيجيب بأنه توجد طريقة واحدة هي التي اتبعها، أما إن كان «ليتوانياً»، فسيجيب بأن العدد كبير وأكثر مما يمكن تصوره، لكن إن كان المجيب «حريدياً سفاردياً» (شرقياً) فسيسأل في المقابل: ماذا يعني «حسيديم»؟ ليضيف أن الذي أعرفه هو واحد فقط، سيدنا فقط، في إشارة إلى الحاخام عوفاديا يوسف، مؤسس حزب «شاس» لليهود الشرقيين.