أثبتت نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، والأزمة التي أعقبتها، ثقل أحزاب المتدينين ــــ على اختلافها ــــ وتأثيرها في الحياة السياسية لإسرائيل. وهي تأثيرات تتجاوز حدود المعركة التقليدية على إثبات الذات والدفاع عن المصالح الخاصة، إلى ترسّخ ديني أكبر في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بما يمثل تهديداً لهوية إسرائيل وطابعها، وربما أيضاً وجودها، خصوصاً أنّ التزايد العددي للمتدينين يضاعف مفاعيل وجودهم، ليس فقط مجتمعياً، بل أيضاً على قرار إسرائيل السياسي الداخلي والخارجي. انطلاقاً من ذلك، بدأت المراكز البحثية تكثف اشتغالها على دراسة مستقبل الدولة الإسرائيلية المقبلة في ضوء تلك المعطيات، بما يتجاوز مجرد البحث في خلفيات الموقف الديني من الدولة، علماً أن أغلبية الرافضين للدولة لأسباب دينية، هم ــــ للمفارقة ــــ جزء لا يتجزأ منها. في ما يأتي، الحلقة الأولى من سلسلة مواضيع تنشرها «الأخبار»، تتناول أوضاع المتدينين الحالية والمستقبلية، وتأثيراتها المحتملة على إسرائيل.تعود العلاقة بين المتدينين والدولة الإسرائيلية إلى ما قبل عام 1948، لكن الواقع الحالي يغاير ما كان قائماً في الماضي. إذ لم يَعُد مبنياً على الانقسام التقليدي في الموقف من إسرائيل الدولة بين القبول والرفض، بل تطوّر إلى خلطة هجينة من الأمرين، بل إلى محاولة السيطرة على الدولة وقرارها واستغلال مواردها، من دون أي تغيير مقابل في كيان الجماعات المتدينة، التي لا تزال تسعى إلى تعزيز انفرادها وتمايزها عن الشرائح اليهودية الأخرى، وتحديداً العلمانيين، الذين يشكلون نواة إسرائيل الدولة وأكثريتها الحالية.
هنا، تبرز انتهازية المتدينين، التي تتمدّد لتؤثر بنيوياً في الدولة نفسها واقتصادها ومعادلة الواجبات والحقوق بين أفرادها. فالشريحة المتدينة، المُسمّاة «الحريديم»، لا تعمل بمعظمها، لكنها تتلقّى عائداً مالياً ضخماً وخدمات من الدولة من دون أي مقابل، فقط لاستحقاقها العددي ونفوذها السياسي المبنيّ عليه، ومشاركتها شبه الدائمة في الحكومات الإسرائيلية، واشتراطها المكاسب والمحافظة عليها لقاء هذه المشاركة والثقة التي تمنحها لتلك الحكومات في الكنيست.
ويبرز أيضاً لدى المتدينين المتزمّتين الامتناع عن الخدمة العسكرية عبر الابتزاز السياسي، وكذلك الدعم المادي للعائلات التي يكون عدد أفرادها كبيراً (وهو ما يتميزون به عن العلمانيين)، وكذلك تمويل الدولة مؤسساتهم التعليمية من خزينتها من دون أن تكون مشرفة على برامجها المغايرة لمنهاج التعليم الرسمي، إذ تحافظ مدارسهم على طابع الدراسة كما كانت عليه في القرون الوسطى، مع تحريم دراسة الرياضيات والمواد العلمية عموماً، لكونها معادية للشريعة اليهودية.
وترفض هذه الشريحة أي تغيير في اتفاق الوضع القائم (الستاتيكو) الذي أُقرّ منذ قيام الدولة مع العلمانيين المؤسِّسين، وإن جرى تعديله تباعاً بعد أخذ وردّ في الماضي لا يزالان موجودين إلى الآن. ويتعلق هذا الاتفاق بتليين موقف «الحريديم» من إسرائيل الدولة، لقاء إعفاءات من الخدمة العسكرية، وتلقي موارد إضافة، ومنحهم السلطة في ما يرتبط بقوانين الأحوال الشخصية وقوانين الطابع اليهودي والتهوّد وغيرها. إلا أن مسعى «الحريديم» لا يقتصر على المحافظة على المكاسب كما ورثوها منذ عشرات السنين، والعمل قدر الاستطاعة على صدّ محاولات إلغائها أو تعديلها، بل يتعدّاها إلى محاولة ترسيخها، وطلب المزيد منها، إلى الحدّ الذي يطبع الدولة التي أُريد لها أن تكون علمانية بطابع ديني متزمّت يتساوق مع الشريعة اليهودية.
زيادة الثقل العددي للمتدينين تنبئ باحتمال تغيّر طابع الدولة نفسها


ويختلف الباحثون في إسرائيل حول مآلات الكيان بعد عقود من الآن، وإن كان الأعمّ الأغلب منهم متشائمين؛ ربطاً بتزايد نسبة المتدينين من العدد الكلي لليهود، على قاعدة أنّ الزيادة العددية تعني الزيادة في القدرة على التأثير وفرض الإرادات. وعلى رغم أن الغالبية تعتقد أن أفضل السيناريوات ستكون قاتلة لإسرائيل، إلا أن باحثين آخرين يرون أن الأمر قد لا يكون بهذا المستوى من الخطورة، وإن كان التهديد قائماً. مع ذلك، يظلّ الإنذار واحداً، وإن تباينت مستوياته في هذه المرحلة. وهو يستدعي من تل أبيب العلمانية استراتيجية مواجهة وقائية استباقية، لا يبدو أنها قادرة على بلورتها وتطبيقها نظراً لميزان القدرة والمكانة السياسية بين الأطراف، الأمر الذي يمنع الحؤول دون الأسوأ، الذي هو تغيير طابع إسرائيل العلمانية إلى طابع متزمّت وفقاً لأحكام الشريعة اليهودية، علماً أن الأخيرة لا يمكن تصوّر تنفيذها عملياً لاستحالة التوفيق بينها وبين الواقع.

الأرقام تتكلّم
بلغة الأرقام، يُقدَّر عدد المتدينين في إسرائيل بـ18%، فيما تذهب بعض التقديرات إلى نسبة تتجاوز 20%، مع شبه تعادل بين الحريديم المتزمتين والمتدينين القوميين، أصحاب الموقف المؤيد للصهيونية. ونسبة الحريديم مرشّحة للتزايد في العقود القليلة المقبلة، الأمر الذي من شأنه انتزاع الأغلبية العددية من العلمانيين. وهو واقع قد يكون قاتلاً لمستقبل إسرائيل ووجودها؛ ربطاً بطابع «الحريديم» ومحرماتهم وانتهازيتهم الاقتصادية والسياسية، ورفضهم العمل والإنتاجية والخدمة العسكرية والقوانين العلمانية، بل وأيضاً المناهج التربوية وسمات الحداثة والتطور التكنولوجي. في هذا الإطار، تشير تقديرات «المركز الوطني للإحصاء»، وهو مركز إحصائي رسمي، إلى أنّ من المتوقع أن ترتفع نسبة «الحريديم» من 11٪ من إجمالي السكان في إسرائيل إلى 20٪ في عام 2040، وإلى 32٪ في عام 2065. لكن في ما يتعلق باليهود دون غيرهم، من المتوقع أن ترتفع نسبة «الحريديم» من 14٪ إلى 24٪ عام 2040، و40٪ عام 2065.
يعني ذلك أن نسبة كبيرة جداً من اليهود في إسرائيل لن تسارع في المستقبل غير البعيد إلى العمل والإنتاجية. فإذا كان «الستاتيكو» الحالي للإعانات الحكومية يتيح لـ70% من «الحريديم» الاقتصار على دراسة التوراة من دون أي عمل، فإن قدرة التأثير السياسي اللاحقة ــــ قياساً بالثقل العددي المتوقع ــــ ستتيح لهم قدرة أكبر على الابتزاز المالي، ومن ثم الابتعاد أكثر عن العمل وعدم المساهمة في الدورة الإنتاجية للاقتصاد. وفي هذا الابتزاز المبنيّ على المكانة السياسية للأحزاب الدينية، وقدرتها على فرض إرادتها عبر الاتفاقات الائتلافية في الحكومات التي تشارك فيها، تمكن الإشارة إلى خلاصة الدراسة المشتركة الصادرة عن «معهد إسرائيل للديمقراطية» و«معهد القدس للعلاقات العامة» (كانون الأول/ ديسمبر2017)، إذ تفيد بأنه في الفترة ما بين عامَي 2002 و2015، وهي الفترة التي شهدت إخراج الأحزاب الدينية من حكومة بنيامين نتنياهو الثالثة (2013)، ارتفع عدد العاملين من الرجال «الحريديم» من 35٪ إلى 52٪، لكن منذ عام 2015 تراجعت هذه الزيادة لأسباب عدة، على رأسها عودة سياسة الضخّ المالي والإعفاءات في حكومة نتنياهو الرابعة، لتُقلّص من جديد حوافز التوجه إلى العمل، وتُفعّل الاكتفاء بدراسة التوراة. من هنا، يمكن نسبةً كبيرة جداً من اليهود الإسرائيليين في المستقبل أن تخرج من دورة الإنتاج في الاقتصاد الإسرائيلي، ليكون على الباقين من العلمانيين وغيرهم من الفئات اليهودية الأخرى إعالة الأوّلين في سياق الإذعان للابتزاز، فضلاً عن استطاعة المتدينين فرض سنّ القوانين وتنفيذها، بمستوى لا يُقارن بما هو قائم اليوم.
كذلك، تشير دراسة صدرت أخيراً عن معهد «شوريش» للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، التابع لجامعة تل أبيب، إلى أن المرأة «الحريدية» كانت تلد 6.05 مواليد عام 1980، وأن هذا المعدل ارتفع إلى 7.07 مواليد عام 1990، ثم إلى 7.42 مولوداً عام 2000. وإن كان قد أعقب تلك الزيادةَ تراجعٌ بسبب تراجع العطاءات ومخصصات الإعانة الاجتماعية نتيجة اللعبة السياسية وبقاء «الحريديم» خارج تشكيلة عدد من الحكومات، إلا أن معدل الولادات عاد للارتفاع أخيراً ــــ بعد عودة الدعم المالي ـــــ إلى أكثر من 7 مواليد لكل امرأة «حريدية»، مقابل نسبة مواليد تصل إلى 2.3 مواليد لدى المرأة اليهودية العلمانية. في الدراسة نفسها، يتبين أن «الحريديم» يشكلون 7٪ فقط من أبناء 20 عاماً فما فوق من الإسرائيليين، لكن أولادهم ــــ أي «حريديّي» المستقبل القريب ـــــ يشكلون 20٪ من الفئة العمرية ما دون 14 عاماً.
بناءً على ما تقدم، يُطرح السؤال الآتي: هل تحمل إسرائيل في مركّباتها الاجتماعية عوامل إضرارها الذاتي؟ زيادة الثقل العددي للمتدينين تنبئ باحتمال تغيّر طابع الدولة نفسها، خاصة إن واصل «الحريديم» سياسة التقوقع، ورفض الاندماج في سوق العمل، والاكتفاء باستهلاك اقتصاد يبنيه الآخرون. المؤكد أن مستقبل إسرائيل سيكون مرهوناً بالشريحة اليهودية «الحريدية» بعد عدة عقود، مع إمكان التهديد الفعلي للهيكل ومَن فيه.