كشفت الانتخابات الأوروبية تراجعاً ملحوظاً لليمين المتطرف في النمسا وألمانيا وهولندا، لكنها أكدت الصعود المستمر منذ أكثر من عقد لحزب «التجمع الوطني». وإذا كانت أسباب ظرفية تفسّر في بريطانيا، كما في إيطاليا، تصدّر اليمين المتطرف والقوى السيادية للمشهد السياسي المحلي، فإن الوضع في فرنسا مختلف بشكل واضح، حيث يأتي اندراج «التجمع الوطني» في الحياة السياسية كاتجاه وازن وبنيوي. وبعد النجاح الانتخابي المدوي في الانتخابات الأوروبية عام 2014، والذي سمح لليمين المتطرف الفرنسي بحصد 25% من أصوات الناخبين تقريباً، أي حوالى أربعة أضعاف نتائجه في انتخابات 2009، أتاحت له الانتخابات الأخيرة الحصول على 24.85% من الأصوات، مُتقدماً على نتائح حزب إيمانويل ماكرون.
الاعتراض والتمرد يعبَّر عنهما تلقائياً في فرنسا بلغة اليمين المتطرف

أُوِّلت هذه الحصيلة على أنها نصر شكلي بسبب النسبة العالية للامتناع عن التصويت، وبالتالي عدم أخذ رؤى وتوجهات قطاعات كبيرة من السكان بعين الاعتبار. يتم تكرار هذه الحجة دائماً، ما يعزز الاعتقاد بأن مشاركة كثيفة في العملية الانتخابية ستفضي آلياً إلى تراجع «التجمع الوطني». يتجاهل أصحاب هذا الرأي النتائج الجيدة جداً التي حققها «التجمع» خلال الانتخابات المحلية، ويمعنون في التعامي عن الأسباب العميقة لصعوده. روّج اليمين المتطرف الفرنسي منذ بداياته خطاباً معادياً للنخب، تغذّى من الرفض المتزايد في أوساط الرأي العام للأحزاب التي تتداول تقليدياً السلطة. وقد تزايد هذا العداء في السنوات الأخيرة في أوساط الناخبين حيال الأحزاب المهيمنة في اليمين واليسار، والتي لم تعد تعبر عن رؤى أيديولوجية وسياسية متناقضة. النتائج الانتخابية لـ«التجمع الوطني» عكست من جهة غرق «الحزب الاشتراكي» الذي لم تتح له مزايداته في قضايا الهوية حجب فشل سياساته الاقتصادية والاجتماعية الذريع. وهي أبرزت من جهة أخرى عجز «حزب فرنسا الأبية» عن التحول إلى قاطرة لليسار الرافض للاندراج ضمن الاستقطاب التقليدي بين اليسار واليمين. أخيراً، أثبتت نتائج هذه الانتخابات أن حركة «السترات الصفر» لم يكن لها تأثير على اتجاهات التصويت، لأنها كانت ستكون مطابقة لما هي عليه اليوم حتى من دون الاحتجاجات التي أطلقتها الحركة. يعلن 50% من الفرنسيين تقريباً تأييدهم للحركة، لكن أقل من 13% صوّتوا لمصلحة «فرنسا الأبية» مع أنها انخرطت فيها عند بدايتها. وكذلك كان للتعبئة الانتخابية المناهضة لماكرون في أوساط الطبقات الشعبية، والتي بلغ معدل امتناعها عن التصويت 60%، دور في اجتذاب العديد من الأصوات لـ«التجمع الوطني». أما الطبقات الوسطى والعليا المدينية، فقد تُرجم استنفارها ضد «التجمع الوطني» تصويتاً لمصلحة حزبَي «الجمهورية إلى الأمام» و«الخضر».
بمعزل عن الرغبة في تهدئة النفوس، والتي تجلّت عبر تصوير التصويت لمصلحة «التجمع الوطني» على أنه تعبير عن رفض العرض السياسي السائد، وليس عن تبنٍّ لأطروحاته الهوياتية والمعادية للهجرة، لا يمكن التغاضي عن أن الاعتراض والتمرد يعبَّر عنهما تلقائياً في فرنسا بلغة اليمين المتطرف. تصبح الهجرة مسؤولة عن كل التذمر الاجتماعي، وعن جميع المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. هذا الواقع هو نتاج مباشر للعنصرية الممأسسة التي تؤثر على جميع البنى الاجتماعية. وأصبحت أحزاب الحكم في اليمين واليسار منذ سنوات عدة ناطقة رسمية باسم عنصرية الدولة. وقد قُدِّم مشروع القانون حول مدرسة الثقة، الذي عدّله اليمين وأيده قسم من اليسار، والخاص بمنع الأمهات المحجبات من مرافقة أولادهن في الرحلات المدرسية، مثالاً جديداً على العنصرية البنيوية السائدة. كيف يمكن الاعتقاد بأن الامتناع عن التصويت، أو الرغبة في الاحتجاج، هي عوامل تسمح بفهم ارتفاع نسب التصويت لمصلحة «التجمع الوطني»، عندما تصبح العنصرية والخطابات المعادية للهجرة مرجعيات مشتركة أيديولوجية وسياسية لكتل اجتماعية واسعة؟