خلال اليومين الماضيين، عاشت وسائل الإعلام الأميركية زخم التصعيد الأميركي ــ الإيراني، حتى بدأت غالبيتها تنطق بما تتجنّب إدارتها النطق به. «إنها طبول الحرب»، الأمر الذي استشعرته «ذي نيويورك تايمز» و«ذي واشنطن بوست» و«بوليتيكو» وغيرها من الصحف التي بنت مقالاتها وتقاريرها على إيقاعها التصاعدي، معتقدة أنّ التحذير منها سيؤدي إلى تفادي الخطر المحتوم لاحقاً... بشرط التخلّص من جون بولتون.المؤكد أن «البيت الأبيض يبني المسار للحرب مع إيران»، وفق إيشان ثارور في «ذي واشنطن بوست»، التي أفردت افتتاحيتها أيضاً للتحذير من «أننا نتّجه إلى الحرب مع إيران، وعلى ترامب اعتماد مخرج دبلوماسي». وفق ثارور، فإن «المشرّعين من كلا الجانبين اشتكوا من أن البيت الأبيض لم يُطلع الكونغرس بشكل كامل على الوضع الحالي». كذلك الأمر بالنسبة إلى الصحافي آدام تايلر، الذي قال في الصحيفة ذاتها، إن المخطّطين العسكريين الأميركيين مدركون تماماً للمخاطر الهائلة من الصراع مع إيران. ولكن ذلك لا يعني أنّ القيادة السياسية الأميركية ستوجّه البلاد بعيداً عن مسارها الصدامي الحالي.
حتى الآن، تصرّ إدارة ترامب على أنها لا تريد القتال. ولكن تحرّكات البيت الأبيض توحي بما هو عكس ذلك. وهو ما أشارت إليه «ذي واشنطن بوست»، لافتة إلى أن «الرئيس ومساعديه الكبار يصرّون على أنهم لا يسعون وراء الحرب، ولكن الإجراءات التي تبنّوها الشهر الماضي ــ بما فيها محاولة منع تصدير النفط الإيراني، إضافة إلى الصلب والنحاس وغيرها من المنتجات ــ بدت كأنها قرّبتهم منها بنحو خطير».
الصحيفة تشير في افتتاحيتها إلى واقع أكثر خطورة، وهو أن «ترامب قال إنه مهتم بالتفاوض مع نظام آية الله علي خامنئي، ولكن ليس من الواضح ما إذا كان مساعدوه الكبار يوافقون معه على ذلك». وما يوحي بميلهم الشديد إلى القوة، أنهم «عرضوا سلسلة من المطالب التي يعرفون بأن طهران لن تلبّيها». وفق الافتتاحية، فإن «الطريقة المثلى للخروج (من هذا المأزق)، هي الاستدارة نحو الدبلوماسية، بالتنسيق مع الحلفاء الأوروبيين»، بل إن على الرئيس سريعاً أن «يكبح جماح مساعديه الصقور، ويتخذ هذا المسار قبل فوات الأوان».
تصرّ إدارة ترامب على أنها لا تريد القتال، ولكن تحرّكاتها توحي بما هو عكس ذلك


بانتظار تبلور الصورة بشكلٍ أوضح، تظهر في الطريق إلى الحرب عوامل كثيرة ليست لمصلحة ترامب نفسه. منها «العلاقة مع الحلفاء»... وجون بولتون. بالنسبة إلى بعض المحلّلين، فإن الدروس من اجتياح العراق عام 2003 ــ الذي شهد الفبركات الاستخبارية لبولتون وغيره من المسؤولين ــ ذهبت أدراج الرياح. أما بالنسبة إلى حلفاء واشنطن، فقد ارتأوا مقاومة ادعاءات الرئيس الأميركي الأخيرة بشأن التهديدات الإيرانية، وفق ما ذكره كل من إيلي كوبر وإدوارد وونغ في صحيفة «نيويورك تايمز». أشار هذان الأخيران إلى الخلاف الذي ظهر إلى العلن بين واشنطن ولندن بهذا الشأن، عقب تصريح مسؤول بريطاني بأنه لا يرى أي خطر متزايد من إيران أو الميليشيات الحليفة في العراق وسوريا. وقد دفع ذلك القيادة المركزية الأميركية إلى إصدار توبيخ غير عادي، قالت فيه إن «الملاحظات من المسؤول البريطاني تعارض التهديدات ذات الصدقية، المتاحة للاستخبارات الأميركية وحلفائها، في ما يتعلق بالقوات المدعومة من إيران في المنطقة».
بغضّ النظر عن فحوى التصريح والتوبيخ، يلقي هذا الخلاف العلني الضوء على مشكلة مركزية تعاني منها إدارة ترامب، في الوقت الذي تسعى فيه إلى جمع حلفائها والرأي العام العالمي ضد إيران. وهي تتبلور أكثر عبر «قيام المسؤولين الدفاعيين الإسبان بسحب فرقاطة إسبانية كانت جزءاً من مجموعة حاملة طائرات تقودها الولايات المتحدة متجهة إلى الخليج، بهدف تجنّب الاشتباك في أي صراع مستقبلي مع إيران»، وفق ما ذكرته «ذي نيويورك تايمز».
الصحيفة غاصت أكثر في البحث عن السبب وراء عدم ثقة الأوروبيين بحليفهم الأميركي في ما يتعلق بسياسته الإيرانية، لتصل إلى حقيقة لا يمكن التعامي عنها، وهي أنّ المسؤولين العسكريين والاستخباريين في أوروبا وأيضاً في الولايات المتحدة، يحملون هواجس من أن «غالبية التحرّكات العدائية لم تنشأ في طهران، بل في واشنطن، حيث دفع مستشار الأمن القومي جون بولتن، الرئيس دونالد ترامب إلى حشر إيران في الزاوية».
يتردد هذا القلق من بولتون بقوة في الإعلام الأميركي، حتى وصل الأمر بالبعض إلى القول إن «ترامب يعيش في عالم بولتون»، وهو ما ذكره المساعدان السابقان للرئيس باراك أوباما كولين كال وجون وولفثال في صحيفة «لوس أنجلس تايمز». هذا ما تطرّق إليه سينا توسي في مجلة «نيوزويك»، مؤكداً أن «الطريقة المثلى لتفادي الحرب مع إيران، هي من خلال طرد جون بولتون». هذا الأخير يشير إلى أنه «حتى لو أبقت إيران الخيار مفتوحاً أمام النزول عن سلّم التصعيد، فإن الحرب قد تصبح أمراً واقعاً إذا ما أبقى ترامب على بولتون في البيت الأبيض».
كورت ميلز يكرّر هذه الفكرة في مجلة «ذي ناشيونال إنترست»، مشيراً إلى أن «هذه هي لحظة الانتصار النهائي للسفير جون بولتون، أو أنها المؤشر على وصول مستشار الأمن القومي إلى اللحظة الأخيرة».
لكنه يشير أيضاً إلى واقع آخر، مستنداً إلى مصادر مطلعة أخبرته بأن «المستشار المتعثر للأمن القومي يتجه إلى أبواب الخروج، بعدما طار عالياً أثناء قيامه بجهوده لتغيير النظام في إيران، وفنزويلا، وكوريا الشمالية». هو أمر غير محسوم ولكن غير مستغرب في إدارة ترامب التي شهدت استقالات وإقالات كثيرة منذ دخوله إلى البيت الأبيض، رغم أنه هو نفسه نفى أن يكون متجهاً لاتخاذ هذا القرار.
مع ذلك، لم تكبح تأكيدات الرئيس التكهّنات المتفشية في العاصمة الأميركية ــ وعواصم أخرى ــ عن أن هناك الآن خلافاً بينه وبين بولتون. بل إن البعض يذهب إلى أبعد من ذلك، في إشارة إلى أن بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو «يتقاتلان كل الوقت»، وهو ما يقوله مسوؤلون حاليون وسابقون في وزارة الخارجية. وبحسب أحدهم، يبدو بومبيو المتحمّس لعزل النظام في طهران، «خائفاً من حرب فعلية قد تجتاح الكثير من الشرق الأوسط».