لا يمنع ارتفاع مستوى المواجهة الاستراتيجية بين موسكو وواشنطن وجود تقاطعات لافتة بينهما حول عدد من الملفات. عودة الصراع بين القوى العظمى هي إحدى السمات البارزة لسياق الفوضى العالمية المتسعة حالياً. تجدد سباق التسلح بين تلك القوى، بما في ذلك التسلح النووي، وتدويل عدد من الأزمات المحلية أو الإقليمية من قِبَلها، قد يكونان أبرز مؤشرين إلى تطور بنيوي يساهم في زيادة توتر العلاقات الدولية وعسكرتها.لم يَحُل هذا التطور، على الرغم من حدّته، دون تقارب مواقف بعض هذه القوى الدولية، وتحديداً الولايات المتحدة وروسيا، حيال قسم من الأزمات المذكورة، على الرغم من تباين خلفيات مواقفهما والرهانات التي تتأسّس عليها. وقد أظهرت الأحداث المتسارعة في السنتين الماضيتين عدة أمثلة من هذه التقاطعات، أبرزها الدعم الأميركي والروسي لبنيامين نتنياهو خلال الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، وتأييد الطرفين ــــ ولو بدرجات متفاوتة ــــ محاولة الفريق خليفة حفتر حسم الأزمة الليبية لمصلحته عسكرياً، وتقارب مواقفهما من الصراع الدائر في اليمن.
يردّ بعض الخبراء هذه التقاطعات، التي باتت أكثر وضوحاً مع وصول دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة، إلى وجود حساسيات أيديولوجية وسياسية مشتركة وعلاقات خاصة بينه وبين فلاديمير بوتين. قد لا تخلو هذه الملاحظة من الصواب، لكن الأبعاد الشخصية، رغم أهميتها، لا تكفي لتفسير سياسات قوى دولية أصبح الصراع والتنافس في علاقاتها يطغى على ما عداه، وتندرج تقاطعاتها الظرفية في إطاره الأشمل.

خلفيات الهدايا إلى نتنياهو
حصل المرشح بنيامين نتنياهو، قبل اليوم المقرر لإجراء الانتخابات الإسرائيلية، على هديتين ثمينتين، أميركية وروسية. فقد أعلن الرئيس الأميركي، من جهة، اعتراف بلاده بضمّ الجولان إلى إسرائيل، وقامت روسيا، من جهة أخرى، بنقل رفات الجندي الإسرائيلي، زخاريا باومل، الذي قُتل في معركة السلطان يعقوب عام 1982 والمدفون في سوريا، إلى إسرائيل. «تصويت» ترامب لمصلحة نتنياهو لم يكن مدهشاً. علاقات عضوية، أيديولوجية ــــ سياسية ومصلحية، تجمع الرجلين وفريقيهما. لم يسبق أن تماهت إدارة أميركية كما تفعل الإدارة الحالية مع المواقف والسياسات الإسرائيلية إلى درجة دفعتها إلى التخلي عن جميع الثوابت الأميركية المعلنة الخاصة بحل الصراع العربي ــــ الإسرائيلي. وقد دلّلت تصريحات ترامب، ونائبه مايك بنس، ووزير خارجيته مايك بومبيو، على هذا الأمر بوضوح. هذه المعطيات، بالإضافة إلى الدعم اللامحدود الذي لا سابق له أيضاً في سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، والذي منحه نتنياهو لترامب في معاركه السياسية الداخلية، وآخر مناسباته كانت قضية جمال خاشقجي، كافية لفهم دوافع الخطوة الأميركية.
لكن تساؤلات كثيرة لا تزال تطرح حول دوافع الخطوة الروسية. الخبير الفلسطيني، مروان بشارة، رأى في مقال نشر على موقع «شرق 21»، بعنوان «قصة الحب المذهلة بين ترامب ونتنياهو وبوتين»، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نجح في القيام بدور القناة الوسيطة والقادرة على تسهيل التفاهمات الموضعية بين الرئيسين الأميركي والروسي نتيجة لعلاقات الثقة التي نسجها معهما. يذكّر بشارة بلقاء عقد في أيلول 2016 في نيويورك، على هامش الاجتماع السنوي للأمم المتحدة، بين نتنياهو وترامب، شرح فيه الأول للمرشح الملياردير، والقليل المعرفة بالسياسة الدولية، جملة من حقائقها حول ملفات حساسة كالأمن والهجرة والإرهاب والإسلام، وتحول إلى درس في الجغرافيا السياسية بحسب ستيفن بانون، مستشاره السابق الذي حضر الاجتماع. فكرة جوهرية ركز عليها نتنياهو، وهي أن إيران وليس روسيا هي العدو الرئيسي، وأن بوتين «في موقع استثنائي لمساعدتنا ضد آيات الله والإسلام الراديكالي... ضغط نتنياهو على ترامب للمزيد من خطب ودّ بوتين وتحسين العلاقات مع روسيا. هذا ما أراد ترامب سماعه. قبل هذا اللقاء، كان يتبادل الإطراء مع الرئيس الروسي، مثيراً حنق خصومه محلياً وفي أوروبا. لكنه أصبح بعده مسلحاً بعقيدة جيوسياسية تفترض بناء شراكة جديدة بين رجال أقوياء يمتلكون رؤى متشابهة». يسهب بشارة في تفصيل المشتركات الفكرية ــــ السياسية والشخصية بين الرجال الثلاثة ليصل إلى خلاصة بأنها تسمح، على الرغم من احتدام المواجهة بين القوى الكبرى على الصعيد العالمي، بالتوصل إلى تفاهمات وترتيبات محلية وظرفية مهمة، وخاصة في سوريا. وهو يضيف إن «نتنياهو استغلّ رغبة روسيا في الحصول على اعتراف واشنطن بموقعها كقوة عظمى وبدوائر نفوذها، واستفاد من علاقته الخاصة مع ترامب ليجني تنازلات من بوتين... لقد نسي الرئيس الروسي بسرعة دور إسرائيل في التسبب بإسقاط الطائرة الروسية في أيلول 2018، ووافق على تشكيل مجموعة عمل معها لدراسة انسحاب القوات الأجنبية من سوريا. وهو قَبِل أيضاً بالانتهاكات المستمرة للأجواء السورية من قِبَل إسرائيل، وقصفها أهدافاً إيرانية في هذا البلد».
ترى روسيا أنه آن الأوان لتحصيل القدر الأكبر من المكاسب في سوريا ولو على حساب الحلفاء


لا شك في أن وجود مشتركات وصِلات خاصة بين الرجال الثلاثة سهّل التوصل إلى ترتيبات ظرفية في سوريا، وأن الدور الذي يضطلع به نتنياهو لاقى «عرفاناً بالجميل» من القيادة الروسية. إلا أن اعتبارات أخرى حكمت موقفها، أولها اقتناعها بأن المعركة في سوريا أصبحت شبه محسومة، وأنه آن الأوان للسعي إلى تحصيل القدر الأكبر من المكاسب والنفوذ في هذا البلد، ولو على حساب الحلفاء. السياق الحالي الذي يتّسم بتشديد الضغوط المتعددة الأشكال على إيران قد يساعد على تحقيق هذا الهدف. الاعتبار الآخر مرتبط بالنظرة الروسية لإسرائيل باعتبارها طرفاً قادراً على التأثير على صناع القرار الأميركيين والغربيين عبر لوبياتها النافذة في بلدانهم، ومنصة من منصات التطور العلمي والتكنولوجي، سيعود التعاون معها بفوائد كبرى بالنسبة إلى روسيا. وهي ترى أن مجموعة عوامل ستعزز من فرص هذا التعاون، ومن النفوذ الروسي داخل إسرائيل، بينها وجود أكثر من مليون مستوطن من أصل روسي فيها، واقتناع بأن الدور الأميركي في الشرق الأوسط سيتراجع نسبياً في المستقبل القريب، نظراً إلى وجود أولويات استراتيجية في مناطق أخرى للولايات المتحدة، ما يفسح المجال أمام حضور روسي أبرز في هذه المنطقة بطلب من دولها التي تريد بناء شراكات جديدة لضمان أمنها والحفاظ على مصالحها. وربما تطمح روسيا في مرحلة قادمة إلى التحول من وسيط ظرفي يتدخل أحياناً لخفض التوتر في سوريا بين إسرائيل وأعدائها، إلى قوة قادرة على اقتراح تصور لما تراه تسوية مقبولة للصراع العربي ــــ الإسرائيلي، بناءً على الصلات المميزة التي تمتلكها مع أفرقائه، وتحصيل مكاسب جمة، سياسية واقتصادية، بموجب ذلك.

التقاطع مع محور الثورة المضادة
تقاطع آخر يندرج في إطار استراتيجية «التسلل» الروسي إلى مناطق النفوذ الأميركي والغربي التقليدية، هو ذلك الجاري في ليبيا واليمن. الحرب التي عادت للاحتدام في ليبيا بعد قرار الفريق خليفة حفتر اللجوء إلى الخيار العسكري لمحاولة حل الأزمة السياسية المستعصية في هذا البلد، تؤشر في الواقع إلى عزم محور الثورة المضادة السعودي ــــ المصري ــــ الإماراتي، بدعم من الولايات المتحدة وفرنسا، على استكمال الهجوم الذي بدأه في الفترة التي تلت اندلاع الانتفاضات الشعبية العربية للإجهاز على القوى التي شاركت فيها. شكّل انتصار هذه الانتفاضات في تونس ومصر، وامتدادها إلى اليمن والبحرين، تهديداً وجودياً بالنسبة إلى هذه الأنظمة، تَضاعف خطره مع إبداء أطراف غربية؛ على رأسها إدارة أوباما استعداداً للحوار والتفاهم مع بعض قواها، ومنها جماعة «الإخوان المسلمون».
نجح محور الثورة المضادة في إطاحة الجماعة في مصر، وفي تحجيمها في تونس، وقَمَع انتفاضة البحرين بوحشية وبسرعة، وشنّ في ما بعد عدوانه الدموي المستمر على اليمن. التقطت روسيا الفرصة التي وفرتها أزمة الثقة بين دول المحور وإدارة أوباما لتطوير علاقاتها معها، والتأكيد على اشتراكها معها في العداء لقوى «الإسلام السياسي» والسعي للقضاء عليها. وصول ترامب إلى السلطة أعاد الحرارة إلى علاقات محور الثورة المضادة مع الولايات المتحدة، وازداد الأخير شراسة في الإقليم كما تكشف التطورات في ليبيا، وفي السودان أخيراً. لكن الحرارة المستعادة لا تتناقض والسياسة المعتمدة من قِبَل أطراف هذا المحور في بناء شراكات دولية جديدة، وظيفتها أساساً توسيع شبكة الأمان، بما في ذلك مع القوى الصاعدة كروسيا والصين.
العدوان السعودي ــــ الإماراتي على اليمن، والموقف الروسي «المتفهّم» له، مثال إضافي على كيفية استفادة روسيا من صراعات إقليمية لا تدور في مناطق نفوذها، للتقارب مع لاعبين وازنين عبر تظهير نفسها كقوة حريصة على «الاستقرار». لا يهمّ إن كان ذلك الحرص يعني عملياً القبول بفرض هيمنة دول المحور على هذا البلد بالقوة وضد إرادة شعبه. المهمّ، بنظر القيادة الروسية، هو تعزيز الثقة والتعاون بينها وبين القادة «الطموحين» في السعودية والإمارات، والتقاط الفرص الناجمة عنهما. هذه المقاربة الشديدة البراغماتية للعلاقات الدولية من قِبَل القيادة الروسية أتاحت لها تحقيق نجاحات عدة، ودخول روسيا إلى مناطق مختلفة لم يكن لها فيها دور، والتأكيد على موقعها كقوة دولية في مواجهة استراتيجية الحصار والخنق والتهميش التي اعتمدتها الولايات المتحدة تجاهها في الحقبة الماضية.