بعد عقود من نظام اقتصادي شبه اشتراكي ــــ صهيوني، شهد الاقتصاد السياسي في إسرائيل تحولات متتابعة، إلى أن أضحى أخيراً اقتصاد السوق أيديولوجية الدولة، مع ما يعنيه الأمر من تخلي الأخيرة عن دورها وفتح الأبواب واسعة أمام القطاع الخاص والرأسمال الدولي. هذا التحول منح الشركات والقطاعات الصناعية والبنوك قدرة تأثير كبيرة على الخريطة السياسية، علماً بأن هذه النخب لم تجد عناءً في التحول من دعم دعاة التسوية إلى مساندة اليمين، طالما أن ذلك لا يؤثر على مصالحها.كشفت قضايا الفساد المتهم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المسؤولين السابقين والحاليين، عن طبيعة ما استقرّت عليه العلاقة بين صناع القرار السياسي وأصحاب رؤوس الأموال، بعد مراحل من التطور مرّ بها النظام الاقتصادي في إسرائيل. وما التأثير الذي تمارسه الشركات والقطاعات الصناعية والبنوك في الانتخابات التمهيدية داخل الأحزاب الكبرى، إلا نتيجة لتطور العلاقات بين الفريقين، حتى أصبحت الأولى جزءاً لا يتجزأ من المشهد السياسي ــــ الاقتصادي.
منذ إقامتها عام 1948، تبنت إسرائيل نظاماً اقتصادياً مركزياً شبه اشتراكي ــــ صهيوني، يعود إلى اقتناع لدى قيادة المشروع الصهيوني التي أدركت آنذاك أنه من دون ذلك لن تتحقق إقامة إسرائيل، ولن يكتب لها البقاء، وانطلاقاً من تقدير كان سائداً في ذلك الحين بأن القطاع الخاص لن يتمكن من جذب الاستثمارات التي تحتاج إليها الدولة في مرحلة النهوض والبناء، لتوفير متطلبات استعمار الأرض الفلسطينية، بكل ما يعنيه هذا الأمر. ومن أبرز من عبّر عن هذه الحقيقة نتنياهو، الذي أعرب عن تفهمه لـ«العهد الاشتراكي» في العقود الأولى لقيام إسرائيل، انطلاقاً من ضرورة تدخل الدولة لاستيعاب الهجرة ولتثبيت أقدام الدولة، لكن لم تعد هناك حاجة، وفق نتنياهو، إلى هذا النظام منذ الستينيات، وكان على إسرائيل التخلص من الإشراف الحكومي القوي والدخول إلى نادي الاقتصاد الحر.
على هذا الأساس، تم في العقود الأولى اعتماد منهج تطوير الاقتصاد من الأعلى، أي بتوجيه من الدولة. وأُقيم نظام سياسي اقتصادي أشبه ما يكون بالاشتراكي الاستيطاني، من حيث سيطرة الدولة على الموارد الاقتصادية ورأس المال والصناعة والأراضي، وتحقيق دولة رفاه. هكذا، قادت مؤسسات الدولة عمليات التصنيع في خمسينيات القرن الماضي، وكان لها دور كبير في تنمية الاقتصاد، وتدخلت بقوة في كل مفاصله، من دون أن يعني ذلك انعدام القطاع الخاص، بل كان هناك تعايش ما وتوافق في ساحة كانت فيها الدولة هي اللاعب الأقوى على المستويين الاقتصادي والسياسي. على هذه الخلفية، لم يكن هناك مجال يسمح ببلورة نخبة اقتصادية مستقلة، ونتيجة ذلك تعزّز الفصل بين السياسة والاقتصاد.
استمرت الحكومات الإسرائيلية في اتباع هذا النهج الاقتصادي إلى نهاية السبعينيات، عندما بدأ الواقع يتغير مع وصول معسكر اليمين إلى الحكم للمرة الأولى، وتشكيل رئيس حزب «الليكود»، مناحيم بيغن، حكومة تحالف بين اليمين العلماني واليمين الديني. ومع بداية الثمانينيات، لاحت ملامح أزمة اقتصادية ومالية حادة منها، ثم تطورت وبلغ معها التضخم المالي نحو 470%، وارتفعت البطالة وكذلك الدين الخارجي الذي بلغ حوالى 160% من الناتج المحلي. على وقع هذه الأزمة المفصلية في تاريخ إسرائيل الاقتصادي، اضطرت الحكومة إلى تبني خطة إنقاذ شاملة بادر إليها رئيس الوزراء شمعون بيريز آنذاك، ومعه وزير ماليته. شكلت الخطة بداية لتحوّل أكبر باتجاه نظام السوق الحرة، لكن من دون أن تتنازل الحكومة عن مسؤولياتها الاقتصادية، ومن دون إلغاء دولة الرفاه.
تم التنازل إلى حد كبير عن فكرة أن الدولة هي المسؤولة المباشرة عن الرفاه الاقتصادي


منذ ذلك الحين، ازدادت وتيرة تحول الاقتصاد الإسرائيلي إلى نمط اقتصاد السوق الرأسمالي، وما ترتب على ذلك من خصخصة للشركات الحكومية، ومن تنازل الدولة عن الدور المركزي في إدارة الاقتصاد وتسليمه لقوى السوق. في المقابل، عملت الحكومات على تقليص ميزانيتها والعجز المتراكم فيها، وخاصة ميزانيات الرفاه ومخصصات التأمين الاجتماعي الوطني. وشهدت هذه الفترة انكشافاً متزايداً للاقتصاد على الأسواق الدولية، وهو ما أدى إلى ولادة نخب اقتصادية ومالية، وإلى تحول في ميزان القوى الذي كان لمصلحة الدولة و«اتحاد العمال» (الهستدروت)، لمصلحة القطاع الخاص ورأس المال الذي أوكلت إليه مهمة إنقاذ إسرائيل اقتصادياً. وفي تلك المرحلة، حصل التحول الفعلي من النخب الاقتصادية القديمة واستبدال نخب جديدة بها.
ثم ترافق التحول في السياسات الاقتصادية الذي استمر في التطور في بداية التسعينيات، مع مسيرة التسوية التي كان يفترض أن تؤدي إلى انسحاب إسرائيلي من الأراضي المحتلة عام 1967. وفي هذا المجال، يربط عدد من الأبحاث المختصة بين الصراع المحتدم في الداخل الإسرائيلي إزاء الموقف من التسوية، وبين موقف النخب الاقتصادية في ذلك الحين، في شأن دعمها حزب «العمل» برئاسة إسحاق رابين، انطلاقاً من رؤية سادت بأن اللحاق بركب العولمة الاقتصادية والاندماج في الاقتصاد والمنظومة العالميين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وجني الثمار الاقتصادية والمالية الناتجة من ذلك، يتطلب كله دفع ثمن للمنظومة الدولية بصيغة إنهاء الاحتلال. وهو ما يعكس تأثير التغيرات في البيئة الدولية بداية التسعينيات وتسارع عملية العولمة، على التحول في النظام الاقتصادي والسياسة الاقتصادية الإسرائيلية باتجاه الدفع نحو تنازل الدولة عن أدوار مركزية من وظائفها الاقتصادية السابقة، لمصلحة الشريك الجديد: القطاع الخاص والرأسمال الدولي، مع مهمات محددة للدولة.
في المقابل، كان هناك تيار يرى ضرورة التشديد على الطابع اليهودي للدولة، ويدعو إلى عدم التنازل عن الأراضي، بل تعميق الاستيطان واتساع نطاقه. لكن الديناميات الداخلية أدت إلى بلورة تيار يجمع بين التشديد على يهودية الدولة واستمرار الاحتلال، وبين الفكر الاقتصادي الليبرالي. ومما ساهم بقوة أيضاً في الدفع في هذا الاتجاه، الأزمة المالية الخانقة التي عاناها الاقتصاد الإسرائيلي بسبب الركود على إثر انتفاضة الأقصى، ثم الأزمة الاقتصادية العالمية. وكجزء من معالجة الأزمة، تم إدخال تغييرات إضافية على البنى الاقتصادية باتجاه مزيد من اللبرلة وتقليص العجز الحكومي والإنفاق. لكن الأهم في التطور الاقتصادي في إسرائيل أن اقتصاد السوق تحول إلى الأيديولوجية الاقتصادية للدولة، بغضّ النظر عن هوية النظام والحزب الحاكم. وعلى ذلك، يمكن تأكيد أنه في الخريطة السياسية الحزبية الحالية، لا يوجد فرق بين الأحزاب الكبيرة في المجال الأيديولوجي الاقتصادي، كما لم يعد هناك فرق بين اليمين واليسار، لا في مجال العقيدة الاقتصادية ــــ الاجتماعية ولا العقيدة السياسية.
على هذه الخلفية، تم التنازل إلى حد كبير عن فكرة أن الدولة هي المسؤولة المباشرة عن الرفاه الاقتصادي. وبالنتيجة، تراجعت الدولة عن التدخل في السوق، وتم تقليص الضرائب المباشرة والميزانيات الاجتماعية، وبيع ممتلكات الدولة للقطاع الخاص، وخفض أجور العمالة بهدف توفير مناخ ملائم لجذب الاستثمارات الأجنبية. وتحديداً، يمكن القول إن هذه التحولات تسارعت أثناء الولاية الأولى لرئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو (1996-1999)، مروراً بإشغاله منصب وزير المال في حكومة شارون بين عامي 2003 و2005، وصولاً إلى ولاياته الحالية.
على هامش هذه التحولات، نمت وتطور علاقات خاصة بين النخب الاقتصادية والسياسية، وسادت عقلية التخادم بين الطرفين، وأدت إلى ما أدت إليه من فضائح. لكن الظاهرة الأهم في هذا المسار أن النخب الاقتصادية، التي أيدت الأحزاب والشخصيات التي رفعت راية التسوية، انطلاقاً من أنها المدخل إلى الاندماج في الاقتصاد العالمي وجذب الاستثمارات، تؤيد الآن معسكر اليمين الذي أطاح التسوية بعد انسداد آفاقها، والسبب أنها لا تريد أن تغرد خارج الإجماع في المجتمع الإسرائيلي، ولكون هذا الموقف لم يكلف إسرائيل أثماناً دولية، بل معه وفي ظله استمر اندماجها في الاقتصاد العالمي، وبقيت الاستثمارات تتوالى.