افتتح الباحث البرازيلي، ريكاردو ميلو، مقاله الأسبوعي، صباح أول من أمس، بقوله: «مذلة تلو الأخرى، كل زيارة خارجية يقوم بها (الرئيس البرازيلي جايير) بولسونارو يقلّل فيها من قدر البرازيل، حتى باتت غائبة عن خريطة الدول المستقلة وذات السيادة». قول ميلو رافقه تصريح للكاتب الشهير، جيلفاندرو فيليو، الذي وصف الرئيس اليميني «بِعَدوّ نفسه والثرثار، الذي جلب سياسات هوجاء، واستقدم سياسيين متطفّلين لا يمارسون الحد الأدنى من أدبيات السياسة».لم يحتجِ الرئيس البرازيلي لأكثر من مئة يوم على حكمه، حتى ظهرت مفاعيل سياساته الداخلية والخارجية التي وُصفت بالارتجالية وغير المدروسة. فالرئيس الجديد لم يتخطَّ بعد عقدته الانتخابية، ولم يطوّر ممارسته السياسية
ولا حتى مفرداته الخطابية، بل حافظ على قاموس الشتائم والاتهامات التي لم يترك مناسبة إلا واستخدمها فيها في وصف خصومه ومعارضيه، وكان آخرها التصريح الذي أطلقه من متحف «الهولوكوست» في تل أبيب، واصفاً اليسارية بـ«بذرة النازية»، ما يثير الكثير من الأسئلة التي تمحورت حول المستقبل القريب، وسط أخطر المراحل التي تعيشها البرازيل الحديثة.
بولسنارو، الذي لم يتخطّ مفاعيل زيارته للولايات المتحدة وتنازلاته الطوعية، أشعل الجدل مرة أخرى بعد زيارته إسرائيل، وافتتاح مكتب للعلاقات التجارية والتكنولوجية في القدس المحتلّة، عوضاً عن نقل السفارة التي كانت
على رأس برنامجه الانتخابي. الرئيس البرازيلي أقرّ من تل أبيب بصعوبة هذا الإجراء، الذي اصطدم بواقع داخلي غير متقبّل لتحجيم البرازيل وجعلها دولة ملحقة، فضلاً عن الأضرار الاقتصادية والسياسية التي ستنجم عن الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل. لكن استبدال إنشاء مكتب تجاري بنقل السفارة أحبط الإسرائيليين أيضاً؛ إذ أفادت أوساط صحافية مرافقة له، بأنه على الرغم من الأجواء الاحتفالية في الظاهر، تعرّض بولسنارو للعتاب القاسي بعد التراجع عن هذه
الخطوة، وراح البعض يتحدث عن خسارة كبرى تكبّدتها إسرائيل جراء هذا التراجع الذي أعطى انطباعاً سيئاً سيحدّ من إقدام دول أخرى على اتباع هذا الإجراء. عتابٌ سبّب تقديم موعد العودة إلى البرازيل يوماً كاملاً.
تعرّض بولسنارو لعتاب إسرائيلي قاسٍ بعد التراجع عن نقل السفارة


لم يخفّف تصريح بولسنارو عن خطئه في التقدير، وجهله للظروف شديدة الصعوبة التي تحول دون تحقيق هذا التحوّل، من حجم الانتقادات التي انهالت عليه من الداخل البرازيلي. فجوائز الترضية التي حاول إعطاءها للإسرائيليين كانت أيضاً انفعالية، ولا تُقارب مصالح الدولة اللاتينية. وقد تمثّلت أخطر هذه التنازلات في توقيعه على كتاب التأييد لبناء معبد يهودي فوق المسجد الأقصى، الأمر الذي اعتبرته أوساط حزب «العمال» إهانة لمليار ونصف مليار مسلم، من أجل استرضاء عدد من المتطرفين. وتصدّرت تغريدة القيادي «العمّالي»، فرناندو حداد، شبكات التواصل الاجتماعي، وقال فيها: «في البرازيل يعيش المسيحيون والمسلمون واليهود بسلام، في زيارة بولسنارو لإسرائيل، تجاهل القسم الأول وأهان القسم الثاني وأحبط القسم الثالث، فضلاً عن أنه استقدم صراعاً غير موجود أصلاً في بلادنا، لم يحقق شيئا للأسف».
لم يكد الرئيس البرازيلي يحزم حقائب العودة، حتى أطلق نجله فلافيو (الذي رافقه في هذه الزيارة) تغريدة تمنى فيها أن تتفجر حركة «حماس»، إلا أن الشاب المعروف بتصريحاته العنيفة أزال التغريدة بعد ساعة من إطلاقها، على إثر الانتقادات الواسعة التي تعرّض لها من الصحافة البرازيلية. في الخلاصة، لم يحقق بولسنارو من زيارته لفلسطين المحتلة غير إغراق بلاده في مزيد من الأزمات والجدل؛ فالجدوى الاقتصادية كانت شبه معدومة، حيث لا تتسع الأسواق الإسرائيلية للتجارة البرازيلية، ولم يرتفع سقف التبادلات بين الطرفين عن ربع مليار دولار، بينما شكل التبادل مع العالم العربي نحو 12 مليار دولار عام 2018. أما الحديث عن الجدوى السياسية، فقد لخصتها أستاذة تاريخ الشرق في جامعة ساو باولو، أرليني كليميشا، بقولها: «لقد أطاح بولسنارو إرثاً سياسياً أنجزته البرازيل على مدى ربع قرن».
التحرّك العربي المضاد لخطوات بولسونارو اقتصر على محاولة السفراء العرب، مجدداً، طلب موعد ثان منه، بعدما تجاهل المحاولة الأولى بحسب السفير الفلسطيني في البرازيل إبراهيم الزبن، الذي أكد لـ«الأخبار»، أن «ممثلي الدول العربية سيطلبون (في حال الموافقة على اللقاء)، التراجع عن الخطوات المسيئة إلى العلاقات التاريخية بين العالم العربي والبرازيل». كذلك، كشف عن مبادرة سيتقدمون بها، مفادها أن «تفتتح البرازيل مكتبين للعلاقات، أحدهما في القدس الغربية، ويختص بالقضايا المشتركة مع إسرائيل، والآخر في القدس الشرقية ويختص بالعلاقات مع السلطة الوطنية الفلسطينية».