لا يخفي المسؤولون الفنزويليون أن المؤسسة العسكرية أخذت بجدية التهديدات الأميركية بالتدخل العسكري، ما لم يصر إلى تسليم السلطة إلى أعوان الولايات المتحدة في الداخل. هذه التحديات المصيرية استدعت تقسيماً للمهمات بين الإدارة السياسية، التي تولت المعركة الإعلامية والاقتصادية والدبلوماسية، وأدارت الملف الخارجي عبر فتح خطوط المشاورات مع الحلفاء، واتخاذ الإجراءات الصارمة إزاء الدول التي تطاولت على السيادة الوطنية، وبين القيادة العسكرية التي اتجهت إلى دراسة دقيقة لمعطيات المواجهة المفترضة، والخيارات المتاحة للردع.تركزت الدراسة العسكرية الفنزويلية على مثلث الخصوم المحيط بالدولة البوليفارية. فالتحول السياسي المعادي في البرازيل أضاف تحدياً آخر إلى تحدّيَي كولومبيا وغويانا. لكن فنزويلا المحاصرة بكمّاشة حلفاء واشنطن تمتلك نقاط قوة عسكرية تجعلها تتحكم في إدارة المعركة، معتمدة على التفوق النوعي العسكري، والاستعدادات الميدانية والتقنية، بالإضافة إلى «الحشد الشعبي الفنزويلي» الذي أسسه وفعّله الزعيم الراحل أوغو تشافيز.
لم تكن فنزويلا الوحيدة التي انكبّت على دراسة سبل المواجهة المحتملة وإمكاناتها. فالبرازيل، التي خاضت نقاشاً داخلياً صاخباً حول هذه القضية، خلصت إلى أن أي مواجهة مع فنزويلا ستكون باهظة الثمن. وكشف الموقع الإلكتروني المتخصص في الشؤون العسكرية، «Defesanet»، أن فنزويلا كانت تسعى إلى نصب منظومة «S-300» بالقرب من الحدود مع البرازيل، بالإضافة إلى نشر أعداد غفيرة من الجيش والمتطوعين لمقاومة أي تدخل برازيلي أو أجنبي، ومن ثم إقفال المعابر الحدودية بين البلدين إلى أجل غير معلوم.
وعرض الخبير الاستراتيجي البرازيلي، غيليرمي إيلر، مقارنة لقوة البلدين العسكرية، وتحدث في تقرير شامل عن صعوبة التحشيد العسكري البرازيلي الذي سيستغرق عدة أيام، بالمقارنة مع الجاهزية الكاملة للقوى العسكرية الفنزويلية. الدراسة خلصت إلى أن عدد الدبابات والمدرعات البرازيلية يفوق عدد الآليات الفنزويلية، لكن النوعية التي تمتلكها الأخيرة تفوق الأولى قوة ودقة، وخصوصاً أن الجيش البوليفاري يمتلك دبابات من طراز «T-92» الروسية، تعتبر الأفضل في القارة اللاتينية.
إيلر كشف أن فنزويلا تملك 39 سفينة عسكرية وغواصتين، مقابل 55 سفينة برازيلية وخمس غواصات. لكنه أكد أنه في حالة أي نزاع جوي مفترض، يمكن أن تتغير المعادلة، لأن فنزويلا تمتلك منظومة دفاع متطورة ضد المقاتلات والصواريخ، حيث تشير التقديرات إلى امتلاك فنزويلا 56 قاذفة صواريخ طويلة المدى، وأكثر من 400 منظومة دفاع جوي ــــ أهمها منظومة «S-300» المذكورة سابقاً ــــ فيما تحوز البرازيل 42 قاذفة صواريخ، ومئة نظام دفاع جوي، ما يحقق تفوقاً استراتيجياً لفنزويلا.
استطاعت فنزويلا عبر جاهزيتها وتحالفاتها إعاقة فكرة التدخل العسكري المباشر


على صعيد القوة الجوية، أشارت الدراسة إلى حيازة فنزويلا 24 طائرة «سوخوي» روسية من طراز «Su-30»، وعدداً كبيراً من الطوافات المقاتلة «Mil Mi-17»، بالإضافة إلى عشرات المقاتلات من طراز «F-16» الأميركية الصنع بعد صفقة أُبرمت في السنوات الماضية مع تشيلي.
على الأرض، تمتلك فنزويلا حوالى 123 ألف جندي يشكلون القوة المسلحة الرسمية لفنزويلا. أما القوة الأكبر فتتمثل في «الميليشيا الشعبية» التي تتضارب الأرقام حول عديدها، لكن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أكد في خطاب سابق أن هذه المجموعات تضمّ مليوناً وستمئة ألف متطوع ينتشرون على كامل الأراضي الفنزويلية، وقد تموضع العدد الأكبر منهم فعلياً على الحدود الكولومبية التي تمتدّ على طول 2219 كلم، حيث سيشكلون خط الدفاع الأول عن فنزويلا.
هذه المعطيات التي وُضعت على طاولة المجلس العسكري البرازيلي خلصت إلى قرار حاسم برفض أي تدخل عسكري، أو السماح لأي جيش آخر باستخدام الأراضي البرازايلية، وذلك بخلاف الحماسة التي أبداها الرئيس الحالي جايير بولسنارو. القراءة ذاتها اطلعت عليها القيادة العسكرية الكولومبية وخلصت إلى النتيجة عينها. قرار القيادتين البرازيلية والكولومبية أغضب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي كان متفائلاً بإدارة حرب استنزاف ضد فنزويلا، مستخدماً حلفاءه اللاتينيين حصراً، على أن يبقى الدور الأميركي أقرب إلى اللوجستي والتوجيهي منه إلى التدخل المباشر. لكن حسابات ترامب، التي أرادت الاستثمار السريع في تولي حلفائه السلطة في عدد من دول أميركا اللاتينية، لم تأخذ في الحسبان الواقع الاجتماعي والاقتصادي لتلك الدول، حيث ستشكل أي مغامرة عسكرية كارثة اقتصادية وانتحاراً سياسياً للسلطة الحاكمة. واقع أدركته المؤسسات العسكرية اللاتينية قبل إدارتها السياسية وحذرت منه، ولعل أهم ما قيل في هذا الشأن جاء على لسان نائب الرئيس البرازيلي، الجنرال هاميلتون موراو، الذي سخر من التحليلات التي روجت للتدخل العسكري، وقال إن الرئيس بولسنارو ليس مجنوناً كي يشارك في هذا القرار المتهور.
لم يشكل التمرد العسكري الإقليمي على خطة واشنطن العائق الوحيد في مشروع إسقاط حكومة الرئيس مادورو. فالدولة البوليفارية التي تحسّبت لأطماع جارتها منذ أن تولى الزعيم الراحل أوغو تشافيز السلطة، رسمت تحالفات دولية استراتيجية؛ أهمها مع روسيا والصين وإيران. تحالفات لم تقتصر على التفاهمات السياسية فحسب، بل شملت استثمارات اقتصادية هائلة. فالصين مثلاً أقرضت فنزويلا أكثر من خمسين مليار دولار بفوائد ميسّرة جداً، وكانت مرنة جداً في تسهيل سداد هذا المبلغ ضمن إمكانات البلد اللاتيني وظروفه، كما لجأت إلى الاستثمار بمبالغ طائلة في قطاعَي النفط والسياحة.
أما العلاقة الفنزويلية ــــ الروسية فقد حملت طابعاً مصيرياً كما يصفها نيكولاي بتروف، أستاذ كلية الاقتصاد العليا في موسكو. فاستثمارات روسيا الاقتصادية وقروضها التي بلغت حوالى عشرين مليار دولار وطاولت قطاعات النفط والمناجم والتسليح، تحولت إلى استثمار جيو ــــ سياسي يرتبط بمصالح الدولة الروسية العليا وحاجتها الاستراتيجية إلى مدّ نفوذها في العمق اللاتيني. وعليه، فإن من غير الوارد ترك هذا الملف خاضعاً لرغبات واشنطن. في المحصلة، استطاعت فنزويلا عبر جاهزيتها الداخلية وتحالفاتها الدولية إعاقة فكرة التدخل العسكري المباشر، لكن كاراكاس تؤكد أن تحول مسار المواجهة من الحرب العسكرية إلى حرب التجويع والظلام يفترض الاستعداد لمواجهة أخطر الحروب وأقذرها. حربٌ يقول الفنزويليون إنها طاولت كل مقومات العيش، وإن الصمود فيها سيحتاج، بالإضافة إلى الدعم الاقتصادي الضروري، الى العمل الحثيث على كسر الهيمنة الأميركية، ومنعها من التمادي في ابتزازها للحكومات والمنظمات الدولية. إذ ترى كاراكاس في هذه المواجهة فرصة لإضعاف واشنطن، وشلّ قدرتها على التحكم وإدارة الفوضى، ليس فقط في أميركا اللاتينية بل على مستوى العالم.