لم يستطع رئيس وزراء العدو الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إخفاء الإخفاق الاستراتيجي في مواجهة الجمهورية الإسلامية في إيران، رغم محاولته تأقلمه مع حقيقة أن الاتفاق النووي بات حقيقة منجزة، إدراكاً منه بأن أي انتقادات قاسية ومواقف تصعيدية لم تعد تجدي. أكثر ما يتجلى به الإخفاق الإسرائيلي تلك المسافة الفاصلة بين ما كانت تراهن عليه إسرائيل، ومعها عدد من الأنظمة الخليجية، وبين ما آلت إليه إيران النووية، واللاعب الإقليمي الحاضر بقوة في الساحة الدولية، والصاعدة اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً.
لم يتبلور الانتصار الإيراني يوم دخول الاتفاق النووي ورفع العقوبات حيز التنفيذ فقط، بل يبقى لهذا اليوم رمزيته ومفاعيله العملانية، وخاصة أنه يشكل ذروة ونتيجة مسارات ومراحل سابقة تجسد الانتصار الإيراني بمعناه العملي. وبقدر ما ترتفع الأصوات في العاصمة الإيرانية احتفاءً بالانتصار النووي وما يترتب عليه، بقدر ما يرتفع مستوى الجهوزية والاستعداد لدى الأجهزة والمؤسسات الاستخبارية والسياسية والعملانية في تل أبيب، من أجل مواجهة مفاعيل المرحلة الجديدة على المستويات السياسية والأمنية والاستراتيجية.
ومع التأكيد على أن إسرائيل دخلت، عملياً، في مرحلة مواجهة مفاعيل الاتفاق النووي منذ الإعلان عن التوصل إليه، وخاصة بعدما اتضح إخفاق الرهان على الكونغرس الأميركي في فرملته، تبقى حقيقة لم يستطيعوا في تل أبيب التعتيم عليها، وهي أن المرحلة التي بلغها الاتفاق، أتت تتويجاً لمسار تراكمي من الانتصارات الإيرانية الممهدة، يوازيه إخفاق إسرائيلي تراكمي، ومعه فشل كل الأنظمة التي راهنت على عزل إيران وإضعافها، وصولاً إلى ضربها.
تلتقي كل المقاربات الإسرائيلية على حقيقة إخفاق كل الرهانات والمساعي الإسرائيلية في منع تحول إيران إلى دولة نووية فعلية، وقطع الطريق على انتزاعها اعترافاً دولياً بذلك، وصولاً إلى رفع العقوبات عنها من دون أن تقدم أي تنازلات تتصل بساحات الصراع الإقليمي، وفي مقدمها الموقف من القضية الفلسطينية ودعم المقاومة. وتحولت كل محطة من محطات البرنامج النووي إلى كباش بين الجمهورية الإسلامية وبين الولايات المتحدة وإسرائيل. وكان يمكن أن يتحول أي تراجع أو هزيمة إيرانية في أي محطة من محطات هذا الكباش إلى نقطة تحول تمنع استمرار مسارها التصاعدي.
عبرت إسرائيل عن خيبتها لغياب قيود على تطوير صواريخ إيران

تتعدد مقومات النجاح الإيراني، بأبعاده النووية والاستراتيجية، ومن ضمنها الصمود في مواجهة محاولات واشنطن وتل أبيب، منذ عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، ردعها عن مواصلة مسارها النووي. لهذه الغاية، كان للأساطيل الأميركية المنتشرة في البحار والمحيطات، وخاصة إسرائيل، دورها الأساسي في سياسة التهويل بتوجيه ضربات عسكرية تستهدف منشآتها النووية، أو شن حرب عليها. واقترن ذلك بفرض عقوبات أرهقت الاقتصاد الإيراني، ولكنها لم تسقط الدولة ولا خياراتها الاستراتيجية. لكن النتيجة كانت أن إيران واصلت «مشوارها» النووي والإقليمي.
بموازاة إحباط محاولات الردع، اندفعت واشنطن وتل أبيب إلى العمل على عرقلة تقدم البرنامج النووي عبر محاولة تخريبه واغتيال العلماء النوويين، وإرسال الفيروسات لتخريب الأجهزة النووية، وفرض حصار علمي واقتصادي عليها بهدف منعها من الاستفادة من أي خبرة أو مواد خارجية... لكن طهران واصلت تقدمها وحققت إنجازات فاجأت كلاً من أصدقائها وأعدائها.
وأتى تصميم إيران على مواصلة طريقها النووي، ونجاحاتها المتعددة، لتضع إسرائيل أمام تحدي اتخاذ قرار حاسم ومصيري. إزاء خياراتها العملانية. وخصوصية الموقف الإسرائيلي في هذا المجال أن من ثوابت تل أبيب الاستراتيجية التي طبقتها عملياً طوال تاريخها، وأثبتت بها أنها لم تقف مكتوفة الأيدي أمام كل المحاولات العربية السابقة لامتلاك قدرات غير تقليدية وحتى قدرات استراتيجية تقليدية.
وكترجمة لاستراتيجية المنع والإحباط، اغتالت إسرائيل علماء ألمانيين في خمسينيات القرن الماضي في مصر، وهاجمت المفاعل النووي العراقي في حزيران 1981 من الجو ودمرته، والأمر نفسه فعلته مع منشأة دير الزور السورية، في 2007. أما في مواجهة إيران، فتراجعت إسرائيل في المنعطفات الحاسمة، ولم يجرؤ نتنياهو ومعه مؤسسات القرار السياسي والعسكري في تل أبيب، بالتفرد باتخاذ قرار بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية، عسكرياً. بل اتضح لاحقاً أن الأجهزة الاستخبارية وقيادة الجيش حذرت مراراً من مفاعيل وتداعيات خيار كهذا. وعلى وقع السجال الحاد الذي شهدته الساحة الإسرائيلية حول الخيارات العملانية إزاء استمرار تطور البرنامج النووي الإيراني، اعتمدت القيادة السياسية سياسة «حافة الهاوية» كخيار بديل من خيار الاستهداف العسكري المباشر.
مع ذلك، بذلت إسرائيل جهوداً مضنية، من أجل إقناع الولايات المتحدة لاحتضان وتبني الخيار العسكري، وصولاً إلى طرح خيار استدراجها، لكنها فشلت بذلك أيضاً. وبالتأكيد لم يكن الامتناع عن هذا الخيار من واشنطن أو تل أبيب، أمراً مسلماً ومضموناً بذاته، وإنما يعود إلى حسابات الكلفة والجدوى لكل منهما. ويمكن الجزم بأن من ضمن هذه الحسابات، نجاح محور المقاومة في أن يزرع في وعي صناع القرار في تل أبيب وواشنطن، حقيقة أن أي اعتداء يستهدف المنشآت النووية سيؤدي إلى رد متدحرج يطال عمق إسرائيل والمصالح الأميركية في المنطقة، بجانب تسليم تم التعبير عنه بأكثر من مناسبة، ويفيد بأن أي ضربة عسكرية غير قادرة على إزالة القدرات العلمية النووية في إيران، وأكثر ما يمكن أن تطمح إليه مجرد تأخيره لبضع سنوات، مع تكاليف باهظة على المستويين الأمني والاقتصادي في المنطقة والعالم.
بعدما بلغت إسرائيل مرحلة اليأس على ضوء فشل محاولات الردع والتخريب والاستدراج وسياسة حافة الهاوية، انتقلت إلى مرحلة محاولة التأثير في السقف الذي تبنته إدارة باراك أوباما في المفاوضات النووية مع إيران. وكرست من أجل ذلك قدراتها الدبلوماسية وجهود أصدقائها المقربين في الداخل الأميركي. ووضعت شروطاً لأي اتفاق مفترض، لكن الصيغة التي تم التوصل إليها في الاتفاق النهائي كانت بعيدة عما كانت تطمح إليه تل أبيب.
لم تقتصر الخيبة الإسرائيلية على المضمون النووي للاتفاق، ولا على الشرعية الدولية التي انتزعتها، بل تجسدت أيضاً بالإخفاق في انتزاع تنازلات من إيران مقابل إنجازها النووي، تتصل بموقفها الرافض للاعتراف بوجودها، وبخياراتها في دعم قوى المقاومة في لبنان وفلسطين. وهو مطلب عبر عنه المجلس الوزاري المصغر بالإجماع، في بيان تلاه نتنياهو بنفسه، آنذاك، وربط فيه الموافقة على الاتفاق بالاعتراف بإسرائيل.
إلى ذلك، عبرت إسرائيل عن خيبتها وإخفاق رهاناتها لعدم تضمين الاتفاق فرض قيود على تطوير إيران قدراتها الصاروخية. وهكذا تحول الاتفاق إلى محطة مفصلية في حركة الواقع السياسي الإقليمي والدولي، وإلى منعطف استراتيجي عزَّز موقع إيران ودورها، ومعها محور المقاومة، في المعادلة الإقليمية.
مع ذلك، يكشف الأداء الإسرائيلي، السياسي والعملي، عن تسليم تل أبيب بضرورة التعامل مع الاتفاق على كونه حقيقة منجزة لا مجال لتجاوزها. وفي ظل ذلك، ضرورة الانتقال إلى مرحلة دراسة وتفعيل الخيارات الإسرائيلية لمواجهة مفاعيله وتداعياته الإقليمية. ولم تنتظر تل أبيب يوم دخول الاتفاق حيز التنفيذ، بل عمدت منذ أشهر الى الاستعداد لما بعد الاتفاق النووي. وكشفت عبر عدد من التقارير الإعلامية عن أن «هيئة الأمن القومي، ووزارة الأمن ورئاسة أركان الجيش، وخاصة شعبة التخطيط، بدأت العمل على القضايا ذات الصلة باليوم الذي يلي الاتفاق». ومن أبرز الخيارات التي اعتمدتها: بناء قدراتها العسكرية بما يمكنها من الاستعداد لمواجهة تعاظم قدرات محور المقاومة، ونسج تحالفات إقليمية على قاعدة الخطر المشترك، وتحديداً مع أنظمة الخليج.