يدير رئيس الوزراء الباكستاني، عمران خان، علاقته بالسعودية انطلاقاً من إرث تاريخي متجذّر منذ ثمانينيات القرن الماضي، وصولاً إلى حكم نواز شريف، الذي حافظ على أواصر قوية بالمملكة على رغم ما شابها أخيراً من خلافات، سواء في شأن موقف إسلام آباد من الأزمة مع قطر، أو عدم انخراطها في العدوان على اليمن بسبب رفض البرلمان. ولم تكن بصمة خان في السياسة الخارجية خافية على السعوديين، حتى قبيل تولّي الرجل منصب رئيس الوزراء في آب/ أغسطس الماضي؛ إذ لعب حزبه «الإنصاف» دوراً كبير في منع المشاركة في حرب اليمن، حين قاطع البرلمانَ لقرابة سبعة أشهر، طالباً من أحزاب المعارضة التوحّد في مواجهة مخطط الزجّ بالجيش في هذه الحرب العبثية، كما رفض مشاركة بلاده في «التحالف الإسلامي» الذي أعلن عنه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وعيّن قائداً له رئيس الأركان الباكستاني المتقاعد راحيل شريف.خان، الذي أعلن مع فوزه بدء عهد مكافحة الفساد والفقر في البلاد، أوحى بنيته اعتماد نوع من التوازن في علاقته بإيران والسعودية، بغية استقطاب دعم مالي سعودي، وتعاون اقتصادي إيراني، يسمح له بإنقاذ اقتصاد البلاد المترهل، والذي يحتاج إلى أكثر من عشرة مليارات دولار بحسب تقدير الخبراء الباكستانيين. هكذا، اختار خان السعودية، التي توجّست من فوزه، كأول محطة خارجية له، الأمر الذي دفع بالسعوديين إلى إرسال رسائل إليه بشأن رغبتهم في تأييده العلني لـ«التحالف الإسلامي»، بحسب ما أفادت به مصادر ديبلوماسية في حينه. لكن خان رفض ذلك بأسلوب ليّن، وإن أعرب عن استعداد بلاده لـ«فعل كل ما بوسعها لحماية الأماكن المقدسة في المملكة»، وهو تعهد عادةً ما يترجمه المراقبون الباكستانيون بأنه تعبير عن الحياد.
في ظلّ عهد خان، الذي مثّل فوزه ضربة للسعودية أطاحت بحلفائها التقليديين، وأهمهم حزب «الرابطة الإسلامية» الذي يتزعمه نواز شريف، يبدو أن علاقة الرياض بإسلام آباد سترسو على معادلة الدعم المالي مقابل مواقف خارجية داعمة لا يكون من شأنها التأثير في مصالح باكستان وأمنها القومي. هذا ما سعى إليه رئيس الوزراء الجديد، الذي أيقن أن ما يشغل بال السعوديين هو عدم التفريط بعلاقتهم بالدولة صاحبة سادس أكبر جيش في العالم، والتي توفر لهم أيضاً خياراً في ما يتعلق بسعيهم للحصول على سلاح نووي إذا دعت الضرورة. وقد تجلّت بعض فصول تلك المعادلة بعد أيام على تولّي خان رئاسة الوزراء، حين وقف إلى جوار السعودية في الأزمة مع كندا. وهو ما بادلته الرياض بإرسالها بعد أقلّ من شهر فريقاً تجارياً رفيع المستوى، أبرم خمس اتفاقيات تجارية كبيرة مع إسلام آباد.
تسعى السعودية إلى تثبيت قدم لها في منطقة ميناء جوادر


وعقب ذلك بشهرين، اقتنص خان فرصة مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار» الثاني في الرياض، والذي قوطع على نطاق واسع إثر جريمة اغتيال جمال خاشقجي في إسطنبول، ليسجّل مشاركته بمبرر حاجة بلاده الماسة إلى الأموال، قبل أن يدعو المستثمرين الأجانب إلى وضع أموالهم في مشاريع في باكستان. وقد عاد خان من ذلك المؤتمر بحزمة وعود سعودية أعلن عنها لاحقاً وزير المالية أسد عمر، متحدثاً عن «أكبر استثمار أجنبي في تاريخ باكستان». وكان لا بد لتلك الوعود أن تُتوّج بزيارة لولي العهد، انتهت إلى توقيع 8 اتفاقيات تضمّ ثلاث مذكرات تفاهم للاستثمار في قطاعات النفط والطاقة، وشملت اتفاقية لإنشاء مصفاة لـ«أرامكو» في ميناء جوادر الباكستاني بقيمة 10 مليارات دولار، فضلاً عن مشاريع تنموية واجتماعية واقتصادية لتجعل قيمة مجموع الاستثمارات أكثر من 20 مليار دولار.
بالنظر إلى هذه الاتفاقيات، يتبين أن نصفها يحتاجه اقتصاد باكستان، والآخر يسمح للسعودية بالدخول على خط ميناء جوادر، الذي يقع على بحر العرب ويحتل موقعاً بارزاً في خطة الممرّ الاقتصادي بين الصين وباكستان. تقول مصادر معارضة إن استثمار السعودية في الميناء ليس إلا مرحلة أولى من استثمارات خليجية متوقعة، تلبية لرغبة أميركية بالاستثمار بما يفوق حجم الاستثمار الصيني، الذي بلغ 52 مليار دولار في أيام حكومة نواز شريف (صرف منها 18 مليار دولار حتى الآن)، وقد يصل إلى ما بين 90 و95 مليار دولار، وذلك قبل عام 2030، الموعد الذي يفترض أن يتم فيه إنجاز المشروع بحسب الاتفاق بين الصين وباكستان.
تدفع الولايات المتحدة بحلفائها، السعودية والإمارات وأيضاً قطر، إلى الاستثمار في الميناء بهدف قطع الطريق على الصين، وإخراجها من المشروع الاقتصادي. ووفق ما قاله العميد المتقاعد آصف هارون، في حديث إلى صحيفة «الأمة» الباكستانية أمس، يقوم المشروع الأميركي على ثلاث مراحل: أولاً استثمار سعودي بقيمة عشرة مليارات دولار، يليه استثمار كلّ من الإمارات وقطر بقيمة مماثلة، وفي المرحلة الثالثة، يرجح العميد المتقاعد أن تستثمر الولايات المتحدة في الميناء بعشرين مليار دولار، مشيراً إلى أن الرياض تسعى في هذا الإطار إلى شراء أراض في جوادر بحجة مصفاة النفط، لكي تثبّت قدمها في هذه المنطقة، وذلك فور انتهاء عقد بين باكستان وإيران يلزم الأولى بعدم استخراج النفط في منطقة جوادر التي تحتوي ذخائر الغاز والنفط حتى عام 2019 - 2020.



خان يتفهّم غضب المعارضة
كما في زياراته الأخيرة إلى كلّ من مصر وتونس وموريتانيا والجزائر، لاقى ابن سلمان مواقف رافضة له في باكستان، أطلقها عدد كبير من الأحزاب والمنظمات، توازياً مع تنظيم مسيرات وتظاهرات مندّدة بالزيارة. وبينما تمّ اقتحام مكاتب بعض الأحزاب واعتقال كوادر منها على خلفية التظاهرات، بحسب ما أفادت به مصادر المعارضة «الأخبار»، تواصل وزراء في حكومة عمران خان مع «مجلس وحدة المسلمين»، واستمعوا إلى أسباب رفض زيارة ابن سلمان، والتي عدّدها مسؤول العلاقات الخارجية في الحزب، شفقت الشيرازي، في حديث إلى «الأخبار»، لافتاً إلى «المجازر التي ارتكبت في اليمن، ونشر الفكر الوهابي لخدمة المشروع الأميركي في المنطقة، وتسويق صفقة القرن، وتأجيج الصراع الطائفي بين السنّة والشيعة».
وأشار الشيرازي إلى أن «الوزراء تقبّلوا موقف المعارضة، واعتبروا أن من حقّها الاعتراض على الزيارة، لكنهم طلبوا العمل على تخفيف حدة احتقان الشارع، فقط لأجل مصلحة الوطن وحفاظاً على الأمن»، خصوصاً أن «مجلس وحدة المسلمين» أقرب إلى حكومة خان من باقي أحزاب المعارضة، وتجمعه لجنة مشتركة بحركة «الإنصاف» التي يتزعّمها رئيس الوزراء.
(الأخبار)