لرجال الدين الشيعة الإيرانيين تجربة طويلة في المعارضة السياسية. في الأعوام اللاحقة لـ«الثورة البيضاء» التي أطلقها الشاه (إصلاح زراعي، حق التصويت للنساء، تعليم عمومي... إلخ)، وإبعاد آية الله الخميني، الشاب الذي عارضها، إلى العراق عام 1963، تزايد عدد المناضلين الشباب المتدينين والعلمانيين الباحثين عن ربط الإسلام بالهوية الإيرانية والعالم المعاصر، وصاروا أكثر نشاطاً. هيمن على المعارضة الأيديولوجية، حتى تلك اللحظة، الليبراليون المتدينون من «حركة تحرير إيران» تحت قيادة مهدي بازركان، والذين انخرطوا في النقد الوطني والإسلامي للسرقة من الثقافة الغربية الذي أطلقه جلال آل أحمد، وهو مؤلف الكتاب الشديد الشعبية «غرب زدكي» (وباء من الغرب). في الدوائر الدينية، جرى تجاوز عنف «فدائيو الإسلام»، القريبين من أفكار «الإخوان المسلمين» (من دون علاقات مؤسساتية معهم)، عبر حركية فكرية بلغت عمق مجتمع كان مندمجاً دائماً في الثقافة الشيعية الوطنية. بداية السبعينيات، تحمّست الشبيبة الإيرانية، التي صار يذهب عدد كبير منها إلى الجامعات، عبر محاضرات علي شريعتي (1933-1977) في حسينية الإرشاد بطهران. كان هذا الفيلسوف الشاب المتكوّن في فرنسا الفاعل الأكثر تأثيراً في إدخال تغييرات على العقلية، قادت إلى النجاح الشعبي لثورة 1979. في كتاباته وخطاباته اللامعة الكثيرة، روّج لفكرة خلق إسلام شيعي فاعل، لا يكون مجرّد مطالب بسيط بالتغيير الاجتماعي والسياسي. استلهم شريعتي من مثقفي اليسار وقادة حركات التحرير الوطني الذين اختلط بهم في باريس خلال الستينيات. ورغم الرقابة، شهد هذا «الإسلام اليساري» المسالم، الاجتماعي، الليبرالي، وحتى المعادي لرجال الدين، نجاحاً في كافة أرجاء البلاد. في بداية الثورة، كانت صور الدكتور شريعتي، الذي توفي في المنفى على نحو مشبوه، أكثر عدداً من صور الخميني.
تعمّد جميع قادة الجمهورية الإسلامية المستقبلية في هذا الفوران الفكري الذي سعى إلى تجاوز الخطاب المحافظ للوطنيين وعلمانيّي «الجبهة الوطنية»، ووسطية «حركة تحرير إيران» التصوّف التقليدي للأغلبية الساحقة من رجال الدين الشيعة، وعنف المجموعات الثورية الماركسية. بالنسبة إلى الـ«سي آي إيه» و«الموساد» و«السافاك»، مثّل نشاط المجموعات الثورية الماركسية (فدائيو خلق، مجاهدو خلق)، المفتقد لقاعدة شعبية، خطراً حقيقياً، لكنه أقلّ من قدرة التعبئة لدى رجال الدين الشيعة المتأثرين بعلي شريعتي أو آية الله الخميني المنفيّ في العراق. لم يعد يبدو هذا الأخير متقرّباً من الليبراليين الوطنيين، بل من القوى اليسارية والمعادية للإمبريالية. ظلّ هذا الإسلام السياسي الجديد يُعَدّ تهديداً لا يمكنه أن يفيد إلا الاتحاد السوفياتي.
قرّر الشاه إذاً أن يهاجم مباشرة آية الله الخميني، عبر مقال مهين نشره وزير المعلومات في 7 كانون الثاني/ يناير 1978. مثّل ذلك خطأ قاتلاً: لا يمكن معاملة قامة دينية بهذا الشكل. بدأت انتفاضة رجال الدين الشيعة مع آلاف ملاليهم، شبكاتهم، مساجدهم، إمكاناتهم المالية، تأثيرهم الروحي والثقافي في الأغلبية الساحقة من الناس. قُمعت انتفاضة أولى دموياً في قم بتاريخ 18 شباط/ فبراير 1978. تبعتها هبّات جديدة كلّ أربعين يوماً، وفقاً لتقليد الحداد الشيعي، قُمعت عسكرياً في تبريز، يزد، طهران، وأصفهان. حادثة سينما ركس آبادان (19 آب/ أغسطس 1978، 420 قتيلاً)، المنسوبة إلى «السافاك»، ألهبت الأرواح أكثر مع بداية رمضان. كان بمقدور الجميع التماهي مع المعارك والشهيد الإمام الحسين، الذي ينطبع تاريخه في الثقافة الشعبية الإيرانية. انفلتت الأمور بنحو كامل من حكومة الشاه. اتخذ الأخير بعض الإجراءات الليبرالية، حرّر مساجين سياسيين، لكن الجيش كان منتشراً في الشوارع.

«صوت الشعب، شريعة الله»
رجال الدين الشيعة، وقائدهم الجديد آية الله (الذي صار يُلقَّب بالإمام) الخميني، فرضوا أنفسهم بيسر بوصفهم القوة الوحيدة القادرة فعلاً على تجنّب حرب أهلية. غزت الثقافة الإسلامية التقليدية الحياة اليومية، خاصة حياة النساء، لكن بالنسبة إلى الليبراليين، التكنوقراطيين، الوطنيين، الاشتراكيين، وجزء كبير من البرجوازية المتوسطة التي ابتعدت عن الشاه، كانت حكومة المرشد أهون الشرور التي يجب ألّا تستمر. نعرف بقية القصة. مرّ أربعون عاماً. لن نشرح هنا الأسباب المعقّدة لهذا التعمير، بل سنستنتج ببساطة أن إيران الحالية، مع بقائها وفيّة لتاريخها الطويل، لا تتقاطع مع إيران بهلوي إلا في نقاط قليلة. إنه نظام سياسي، اجتماعي، ثقافي جديد ولد من رحم ثورة معقدة لا تزال حية، ولا تُختزل في الإسلام السياسي.
داخل البلاد، قد يكون التغيير الأساسي بروز برجوازية متوسطة جديدة من أصول شعبية، وبالتالي بثقافة إسلامية اتخذت فيها النساء مكانة لا تزال مجهولة حتى اليوم. الجمهور هو من أسقط الشاه. صار الإيرانيون جمهوريين ويطالبون بالاستقلال، الحرية والجمهورية، من دون التخلي عن الإسلام. في الخارج، أثارت الثورة الإيرانية، ثم جمهورية إيران الإسلامية، خوفاً كثيراً ما يكون غير عقلاني. اتخذ «التهديد الإيراني» أشكالاً عديدة: خشي الغربيون التهديد السوفياتي على بترول الخليج العربي - الفارسي، خشي الطغاة والملكيات الجارة من جمهورية تطالب فيها الجماهير بالحرية وحقوق الإنسان، خسرت إسرائيل حليفاً، وفي العالم المسلم الذي تطغى عليه الملكيات السنية انتشرت خشية من ثوران الأقليات الشيعية. مرة أخرى، كانت إيران مختبراً سياسياً واجتماعياً لدول الشرق الأدنى، ودفعت ثمناً باهظاً.
* مدير أبحاث فخري في المعهد الوطني للبحث العلمي. أدار بين عامي 1978 و1993 المعهد الفرنسي للبحث في إيران، وفريق البحث «عالم إيراني» بين عامي 1992 و2003.
ترجمة بتصرف عن موقع «أورينت 21».