باريس | ما الذي خوّل انتفاضة مايو 1968 الباريسية أن تؤسس، خلال أربعة أسابيع فقط من الحراك الاحتجاجي الطلابي، لقطيعة ثورية عمّت كل الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية، وامتدت تأثيراتها لعقود، متجاوزة حدود فرنسا لتصل إلى مختلف أصقاع الأرض؟ في المقابل، لماذا لا تزال انتفاضة «السترات الصفر» تراوح مكانها، بعد أكثر من شهرين من التظاهرات والاعتصامات التي عمّت مختلف المدن والمناطق الفرنسية، وتخللتها تسع جولات أسبوعية من الحراك الاحتجاجي العارم؟ نجحت «مايو 1968» في خلخلة أركان الحكم الديغولي، بالرغم من أنه كان يحظى بتأييد ثلثي الفرنسيين. ولا تزال «السترات الصفر» تعاني المد والجزر، وتواجه حملات شرسة من الشيطنة والنقد، بالرغم من أنها تحظى بمساندة ثلاثة أرباع الفرنسيين. مفارقة قد تبدو فاقعة ومحيّرة. لكن نجاح الانتفاضات الثورية ليس مرتبطاً فقط بحجم التأييد الشعبي لها، أو براديكالية مناضليها واستماتتهم. المحكّ الحاسم لإنجاح أي حراك ثوري يكمن في مدى قدرته على استقطاب النخب التي تضطلع بمهمة «صناعة المعنى» الكفيلة بتحويل الانتفاضة الثورية من مجرد حراك احتجاجي ذي طابع مطلبي إلى لحظة مفرقية، من شأنها أن تؤسس لوعي بديل لا يكتفي بشجب المظالم والفوارق، بل يتجاوز ذلك إلى خلخلة شاملة لأسس الوضع القائم ويقينياته، بما يفضي إلى تغيير أو تثوير سمات وقيم «روح العصر».
هل يمكن تصوّر «مايو 1968» من دون «سلطة المثقفين» الذين لم يكن مطلوباً منهم قيادة الحراك الاحتجاجي أو تأطيره، بل كانوا شهوداً عليه ومرافعين باسمه؟ فمن الثنائي سارتر ــــ دي بوفوار إلى سينمائيي «الموجة الجديدة» وغيرهم من أقطاب قلعة الفكر التقدمي في «الحي اللاتيني»، شكّلت النخب الثقافية سنداً للطلاب والعمال المنتفضين وقدوة لهم.
أما انتفاضة «السترات الصفر»، فبالرغم من شعبيتها الكاسحة، إلا أنّها افتقدت أي سند من قبل النخب طوال الأسابيع التسعة المنقضية من عمر حراكها. لم تكتف نخب فرنسا وفلاسفتها «الجدد» بالتنصل من الإرث العريق لـ«سلطة المثقفين» التي ظلت راسخة وفاعلة في المجتمع منذ ثورة 1789، بل تحول أغلب ممثلي «النخب» إلى شهود زور منخرطين في مساعي شيطنة الحراك الاحتجاجي بحجة التصدي لـ«فاشية جديدة اسمها الشعبوية». تهافت أسقط ورقة التوت عن حالة البؤس التي آلت إليه النخب الثقافية اليوم في بلد فولتير.
زعيم تيار «الفلاسفة الجدد»، برنار هنري ليفي، قارن «السترات الصفر» بـ«السترات السود» النازية، مبشّراً بأن هذا الحراك الذي «يعج بالفاشيين، من اليمين واليسار على السواء، سينتهي حتماً في مزبلة التاريخ»، وأطلق «هاشتاغ» على تويتر لتأييد الرئيس ماكرون في مواجهة من سماهم «أعداء الجمهورية»!
من جهته، وصف قطب آخر من أدعياء «الفلاسفة الجدد»، وهو باسكال بروكنر، أصحاب «السترات الصفر» بأنهم «برابرة وليسوا مستضعفين»، محرّضاً السلطات على التعامل معهم بمزيد من الحزم الأمني، مستشهداً بمقولة باسكال الشهيرة «العدالة من دون قوة هي العجز بعينه». في المنحى ذاته، لم يتردد الفيلسوف والوزير السابق لوك فيري في مطالبة قوات الأمن علناً بإطلاق النار على المتظاهرين الذي يقترفون أعمال عنف أو تخريب!
الموقف التحريضي ذاته تبناه زعيم الطلبة خلال انتفاضة مايو 1968، دانييل كوهين بنديت، شاجباً «أعمال التخريب التي طاولت جادة الشانزليزيه التي هي الواجهة السياحية لفرنسا عبر العالم». حين تم الرد عليه بأن انتفاضة مايو 1968 بدورها تخللتها أعمال عنف ألهبت على مدى أسابيع «الحي اللاتيني» الذي يعد الواجهة الثقافية لفرنسا عبر العالم، أجاب برنديت بأنه «خلال مايو 1968 كانت هناك أعمال عنف بالفعل، لكننا لم نشهد أعمال نهب كما رأيناها مع السترات الصفر». أعمال النهب الهامشية التي تخللت بعض التظاهرات، وبالأخص في باريس، اعتبرها بنديت سبباً كافياً للوقوف ضد «السترات الصفر» وتجديد تأييده لـ«صديقي ماكرون، الذي لا أعيب عليه سوى كونه يعاني مما يمكن وصفه بمتلازمة التلميذ الأول في الصف، إذ إن ثقته الشديدة بنفسه تجعله يبدو متعالياً، لكن إصلاحاته تسير في الاتجاه الصحيح»!
الوحيد الذي شذّ عن القاعدة من بين أقطاب النخب الجديدة هو الفيلسوف وعضو الأكاديمية الفرنسية ألان فنكلكروت. لكن دوافع تأييده لـ«السترات الصفر» تندرج في خانة العذر الأقبح من الذنب. فقد أشاد بكون الحراك يحمل ألوان «Bleu Blanc Rouge» (رمز العلم الفرنسي)، بدلاً من الـ«Bleu Black beur» (شعار التعدد العرقي الذي ترفعه الجمعيات المناهضة للعنصرية في فرنسا). ورأى أن غياب أبناء المهاجرين من شباب أحياء الضواحي عن هذا الحراك يعد «ظاهرة صحية تدفع إلى التفاؤل»!