من المنتظر أن تحمل بداية الأسبوع الحالي، تصوّراً لحل للأزمة التي تعيشها فرنسا على وقع احتجاجات «السترات الصفراء» في ظل إعلان وزير الخارجية جان إيف لودريان أن الرئيس إيمانويل ماكرون سيتحدث، وأن موقفه «سيكون قوياً بما فيه الكفاية لاحتواء التحرّك أو على الأقل ردع» مثيري الشغب. كلام لودريان جاء أمس، غداة تظاهرات ضخمة في العاصمة باريس، والتي تخلّلها إطلاق الغازات المسيلة للدموع في محيط جادة الشانزيليزيه، وتكسير واجهات وإحراق سيارات، وكذلك صدامات في مدن كبيرة مثل بوردو وتولوز ومرسيليا ونانت، وإغلاق شوارع وحواجز على طرق.وزير الداخلية كريستوف كاستانير عبّر عن ارتياحه «لوضع حدّ لتصاعد العنف»، ولأن «حراك مثيري الشغب كُسر»، ولكن هذا الارتياح لا يلغي واقع أن تعبئة «السترات الصفراء» ما زالت قوية، وأفضت إلى عدد قياسي من المعتقلين. كذلك، لا يلغي تصريح وزير الداخلية تأثير هذه التحرّكات على الاقتصاد الفرنسي، وهو ما تطرّق إليه وزير المالية برونو لومير الذي بدا أكثر واقعية، إذ حذّر من أن العنف المرتبط بالتظاهرات التي تجتاح البلاد، يشكّل «كارثة» بالنسبة للاقتصاد. وقال للصحافيين لدى زيارته المحال التجارية في باريس، التي تعرّضت إلى النهب خلال الاحتجاجات: «إنها كارثة بالنسبة للتجارة وكارثة على اقتصادنا». الوزير تحدّث عن أزمة بوجوه ثلاثة، «أزمة اجتماعية» ترتبط بالقدرة الشرائية و«أزمة ديموقراطية» مع تمثيل سياسي غير كافٍ و«أزمة أمة» في مواجهة «انقسامات كبيرة».
ناقوس الخطر هذا، دقّه أيضاً رئيس الوزراء إدوار فيليب، الذي شدّد على أنه «حان وقت الحوار». وقال: «أصبح علينا إعادة نسج الوحدة الوطنية» التي تعرضت لهزة في هذا التمرّد الشعبي غير المسبوق. وأكد فيليب أن الرئيس ماكرون «سيتحدث» و«سيعود إليه أمر اقتراح الإجراءات»، ليُتاح «لكل الأمّة الفرنسية أن تجتمع من جديد». أما ماكرون، الذي استهدفته هتافات متكرّرة طغى عليها شعار «ماكرون استقل»، فقد أمضى يومه في قصر الإليزيه محاطاً بقوة أمنية كبيرة، مفضّلاً عدم الإدلاء بأي حديث علني.
في غضون ذلك، بدا من الواضح أن الإجراءات التي اتخذتها السلطات الفرنسية قد ساهمت في تخفيف حدّة العنف. فقد قرّرت اتخاذ إجراءات أمنية «استثنائية» تتمثل بنشر 89 ألفاً من عناصر قوات حفظ النظام، بينهم ثمانية آلاف في باريس مدعومين بآليات مدرعة تابعة للدرك، تستخدم للمرة الأولى في باريس. وأغلقت مواقع سياحية عدة، بينها برج إيفل ومتحف اللوفر وعدد من المحلات التجارية والمراكز التجارية الكبيرة. وخلال التجمعات، كانت عمليات المراقبة مشددة. في المجموع، أوقف 1385 وأبقي 975 محبوسين قيد التحقيق، فيما أفادت حصيلة وطنية مؤقتة للإدارة العامة للصحة بأن «الطواقم الطبية في المستشفيات عالجت 179 شخصاً أصيبوا بجروح»، خلال التظاهرات.
وينتمي معظم ناشطي «السترات الصفراء» إلى الطبقات الشعبية والوسطى، وأيضاً لليمين واليسار المتطرّف، وهم يرفضون السياسة الضريبية والاجتماعية لإيمانويل ماكرون. وفي هذا السياق، تحدّث زعيم كتلة حزب «فرنسا المتمردة» اليساري الراديكالي جان لوك ميلانشون عن «حل» الجمعية الوطنية، معتبراً أن ذلك سيشكل مخرجاً «معقولاً» للأزمة. موقف ميلانشون يأتي في وقت أفيد فيه بأن نوّاباً من هذا الحزب وآخرين شيوعيين واشتراكيين سيقدّمون، اليوم، مذكّرة لحجب الثقة عن الحكومة، يُفترض أن تناقش الأربعاء أو الخميس، لكنها لا تتمتع بأي فرصة لإقرارها.
من جهتها، طالبت زعيمة اليمين المتطرّف مارين لوبن، ماكرون، باتّخاذ «إجراءات قوية وفورية»، للاستجابة لـ«معاناة» متظاهري «السترات الصفراء». وعلى هامش لقاء مع الحزب القومي الفلمنكي «فلامس بيلانغ» في شأن الميثاق العالمي للهجرة، قالت لوبن: «يجب (على ماكرون) أن يدرك حجم المعاناة الاجتماعية وأن يتّخذ إجراءات قوية وفورية». وأضافت: «أدعو مرة جديدة رئيس الجمهورية إلى فهم المعاناة التي يتم التعبير عنها، وإلى الاستجابة لها بالخروج من الإليزيه والإقلاع عن سياسة التقوقع». وأكدت لوبن أنّ «ردّ رئيس الجمهورية لا يمكنه أن يكون أمنياً فقط».
في هذه الأثناء، يُفترض أن تبدأ السبت المقبل في جميع أنحاء فرنسا مشاورات بمشاركة نقابات وأعضاء مجالس محلية وأفراد من «السترات الصفراء». وقد أعلنت الحكومة التزامها اتخاذ «إجراءات مواكبة سليمة وفعالة» لها.
وفيما شهدت نهاية الأسبوع ارتفاعاً في حدّة التصريحات المتبادلة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والمسؤولين الفرنسيين، فقد بدا من اللافت مشاركة مستشاره السابق ستيف بانون في اللقاء مع لوبن، حيث اعتبر أنّ محتجّي «السترات الصفراء» هم «بالضبط نوعية الأشخاص نفسها الذين صوّتوا لمصلحة الرئيس الأميركي أو لمصلحة بريكست».
وتزامن تصريح بانون مع تكرار مهاجمة ترامب لاتفاق باريس للمناخ، مشيراً إلى تظاهرات «السترات الصفراء»، كدليل على صوابية قراره رفض الاتفاق. وكتب ترامب على موقع «تويتر»، أن «اتفاق باريس لا يسير على نحو جيد بالنسبة إلى باريس. التظاهرات وأعمال الشغب في أرجاء فرنسا».
وقد ردّ لودريان على ترامب داعياً إياه إلى عدم التدخل في الشؤون السياسية الداخلية لفرنسا. وقال في برنامج تلفزيوني: «أقول لدونالد ترامب، ورئيس الجمهورية (إيمانويل ماكرون) قال له أيضاً: نحن لسنا طرفاً في النقاشات الأميركية، اتركونا نعيش حياتنا حياة أمة». وأضاف: «نحن لا نضع السياسة الداخلية الأميركية في حساباتنا ونريد أن يكون ذلك بالمثل».