تستهدف انتفاضة «السترات الصفراء» الحيف الضريبي وتعسف الدولة، محركها هو محور المعارك التحررية: المطالبة بالمساواة، ويعتمد مستقبلها السياسي على انفتاحها على القضايا المشتركة للمساواة بين الجميع. انتفاضة «السترات الصفراء»، حدث بكل ما تحمله الكلمة من معنى: غير مسبوق، إبداعي، ولا يمكن السيطرة عليه. وهي، على غرار كل قومة عفوية للشعب، تتجاوز التنظيمات القائمة، وتربك المعلقين المحترفين، وتذعر الحكام.على غرار جميع النضالات الاجتماعية الجماعية، تعيد اختراع نفسها يوماً بعد يوم، في عملية إبداع سياسي، من دون أجندة مسبقة. التنظيم الذاتي هو محددها الوحيد. وعلى غرار جميع التحركات الشعبية، تعبر عن فرنسا كما هي، بتنوعها وتعددها، ببؤسها وعظمتها، بتضامنيتها وأحكامها المسبقة، بآمالها وخيباتها.
في مواجهة المجهول، تتمثل أولى مسؤوليات الصحافة، قبل إطلاق حكم، في الاستماع بحثاً عن الفهم. هذا ما سعت إلى فعله «ميديابارت» منذ البداية، عندما كرست وقتاً لتذهب وتشاهد. اقتربت أكثر ما يمكن من الميدان، فوجدت دوافع وأجيالاً وبيئات متنوعة، وأظهرت مشاركة غير مسبوقة للمتقاعدين، وحضوراً كبيراً للنساء (اقرأوا خاصة تقارير ماتيلد غوانك وفرانسوا بونيه).
لم نقتصر على الوقائع والمتفرقات والحوادث العنصرية المعادية للمهاجرين أو الصحافيين، التي شوهت واستنقصت من مصداقية التعبئة، حيث أثبتت تقاريرنا الوعي السياسي الأصيل الذي يحيط بهذه الانتفاضة العفوية: من جهة، الإدراك الحاد لغياب العدالة الاجتماعية؛ والمطالبة بديموقراطية جذرية من جهة أخرى. لعبت مسألة الضرائب دور الكاشف الاجتماعي، حيث فهم شعب بأكمله أن السلطة المتولدة عن صناديق الاقتراع عام 2017، تتبنّى بلا حياء، سياسة تخدم المصالح الاقتصادية لأقلية اجتماعية.
لقد أفقر إيمانويل ماكرون الدولة عمداً لمصلحة كبار الأثرياء (...) حيث أضعف الخدمات العامة وخفض الضرائب لأقلية من الناس، ورفعها على البقية. في 2 آب/ أغسطس الماضي، وقبل بداية انتفاضة «السترات الصفراء» ضد «الضريبة على الكربون»، نشرت وزارة الحسابات العامة، وضعية الموازنة حتى نهاية شهر حزيران/ يونيو، أي نصف عام 2018. (...) تراجعت المداخيل الضريبية بنسبة 2.4% مقارنة بالثلاثي الأخير من العام الماضي، وهو انخفاض يبلغ في حقيقة الأمر 4.5%، إذا ما أخذنا في الاعتبار التضخم، ما يعني هوة كبرى بـ14 مليار يورو في العام.
يعود هذا التراجع فقط إلى اللاعدالة الجبائية والسياسة الحكومية: ففي حين استمرت الضرائب على العدد الأكبر من الناس في الارتفاع، يأتي الانحدار الضريبي من الهدايا المقدمة إلى الشركات والأثرياء. بين الثلاثي الأول من 2017، والثلاثي الأول من 2018، تراجعت الضريبة على الشركات بـ10.5%، وتراجعت 39% بالنسبة للضريبة التضامنية على الثروة، التي ألغيت وعوضت بضريبة على الثروة العقارية، والتركات ورأس المال!
لا ينتفض أصحاب «السترات الصفراء» ضد الضرائب، بل ضد توزيعها غير العادل. أفضل دليل على ذلك، هو مطالبتهم بمرافق عامة مجهزة ومتوفرة، ويدافعون على ما يجعل المجتمع متماسكاً: المدارس، المستشفيات، مراكز الأمن، وسائل النقل... إلخ. وهم يعرفون أنّ هذه المرافق العامة مموّلة من الضرائب، التي تمثل «مساهمة مشتركة ضرورية»، والتي يذكر إعلان حقوق الإنسان والمواطن المدوّن عام 1789، في فصله الثالث عشر، أنها «يجب أن تكون موزعة بالتساوي بين جميع المواطنين، في شكل متناسب مع إمكاناتهم». ما لم يعد محتملاً هو توزيعها غير العادل.
يعنى الوضوح السياسي الآخر لهذه الانتفاضة، بإنكار الديموقراطية. الاستعمال المتساوي لمواقع التواصل الاجتماعي، ورفض التمثيل الحزبي، والرغبة في تصوير جميع اللقاءات مع السلطات، والصياغة الجماعية لقوائم المظالم، والخلق العفوي لأشكال تحرك جديدة... إلخ. جميعها رموز وضع ديموقراطي جديد، مهما كانت التناقضات التي تشقه.
من خلال إجراء استفتاءات، واشتراط وجود تشاور، والمطالبة بإجراء مداولات، يقول أصحاب «السترات الصفراء» إن الديموقراطية لا تُختزل في حق التصويت، وإن الديموقراطية التي يفقد فيها الشعب السيد جميع سلطاته بعد التصويت، حيث يقصى من الجدل السياسي ويطلب منه الصمت، لم تعد ديموقراطية.
يجابه هذا الوضع الديموقراطي على نحو جذري، الانحراف الملكي للرئيس ماكرون، فبعد وعده بـ«ثورة ديموقراطية عميقة»، ترجم انتخاب هذا الغريب عن عالم السياسة المحترفة، بتشدد أسوأ ما أنتجته هذه الأخيرة في ظل الجمهورية الخامسة: سلطة شخص واحد يتصرف كمالك لإرادة الجميع؛ تركيز سلطوي للقرار السياسي حول «الأنا» الرئاسية؛ غالبية برلمانية خاضعة لرغبات وأخطاء وهفوات الملك المنتخب، وصلت حد التسامح مع قضية ألكسندر بنعلا؛ زبونية مبنية على المصالح الخاصة، تعود بشكل كبير إلى الرئاسة المطلقة التي شيدت سلطتها على حساب المصلحة.
من الواضح أن إيمانويل ماكرون ليس أول رئيس يظهر هذا النكوص الديموقراطي، لكن توجد خاصيتان لرئاسته تفاقمان وضعيته إلى درجة صارتا تغذيان رفضاً عاطفياً وعنيفاً تجاهه، وهو لا يزال في بداية عهدته الخمسية. يذكّر بنهاية رئاسة فاليري جيسكار ديستان (1974-1981).
أولاً، ظروف انتخابه الذي جاء بسبب مواجهة مع اليمين المتطرف: عوض أن يفهم معنى هذا التصويت الذي لا يعني مساندة عريضة، بل جاء دفعاً بالضرورة، ويضع بالحسبان تنوّعه وتبايناته من خلال تبني ممارسة تشاركية وتشاورية، صار يتصرف كما لو أن قاعدته التي أعطته 18% من الأصوات في الدور الأول، تمنحه شيكاً على بياض، ليتخذ إجراءات على حساب الـ82% المتبقين. مراكماً في ذاته احتقار الطبقة - الأكثر ثراءً - والفئة - الأكثر تعليماً - يجسد سلوكه في ممارسة السلطة سياسة عدم مساواة، حيث يوجد علية وسفلة، أرواح قوية وإرادات ضعيفة، مُدمجون ومستبعدون، أصحاب مظهر براق وآخرون قليلو حظ.
تتزاوج أيديولوجيا النجاح الفردي، التي تأتي على حساب التضامن الجماعي، مع نجاح المغامرة الفردية (لماكرون)، ما ينتج إفراطاً لا يسمح بأي شيء آخر. من ميدان الضريبة إلى المسألة الاجتماعية والنقاش السياسي، وصولاً إلى المسألة الديموقراطية، تجدد حركة «السترات الصفراء» شرط المساواة، الذي كان دائماً نابض المعارك التحررية. في الـ10 من كانون الثاني/ ديسمبر المقبل، سنحتفل بمرور 70 عاماً على تبني باريس للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يؤكد قبل كلّ شيء، على أن «جميع البشر يولدون أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق». هذا الحق في حيازة حقوق، والدفاع عنها، والمطالبة بسنّها، يفتح باب الإمكانات السياسية على مصراعيه، منحياً جبال الفكر المحافظ جانباً، ويرحل بقرون من الأحكام المسبقة، ويطيح بالهيمنات التي كانت تظن أنها لا تتزعزع. هذا البيان بلا حدود، يواجه جميع قواعد انعدام المساواة الطبيعية: التمييز على أساس الأصول، الوضع، المظهر، المعتقد، الجنس أو الجندر، جميعنا متساوون في الحقوق والكرامة.
يجب على جميع الحالمين بجمهورية ديموقراطية واجتماعية الانخراط في هذا الصراع من أجل المساواة إلى جانب أصحاب «السترات الصفراء» ومعهم. أن تبقى متفرجاً أو مرتاباً، أو تنسحب متحفظاً، لا يخدم إلا رفع صوت قوى الظل، التي تعمل اليوم، في فرنسا وأوروبا، وكذلك على امتداد العالم، على تعويض المساواة بالهوية، والحقوق للجميع، بالامتيازات للبعض.
(عن «ميديابارت» الفرنسية)