حالة حرب تسيطر على أوكرانيا منذ أن استفاقت صباح الأحد على احتجاز سفنها في مضيق كيرتش. مرحلة تصعيد غير مسبوقة يبدو الرئيس بترو بوروشنكو، الأكثر استفادة من تداعياتها على عتبة الانتخابات الرئاسية، وهو الذي وضع الحادثة في إطار «عدوان روسي جديد» على بلاده. «الناتو»، حليف كييف، رفض القفز على ما جرى، لأن المستجدات «خطرة إلى أبعد الحدود». وفيما بدت موسكو مثبّتة لسيطرتها على المنطقة الاستراتجية، تجنح برلين وباريس نحو التهدئة، خلاف واشنطن التي اختارت «الوقوف ضد العدوان».حرّكت حادثة مضيق كيرتش مياه بحر آزوف الراكدة. ذلك البحر الممتد على مساحة 37,600 كلم مربع، والمتميز بعمق لا يتجاوز 14 متراً، يضم ثروات غازية وثروة سمكية أهمها السردين. لكن السردين ليس السبب الرئيس في جعل آزوف منطقة استراتيجية، بل اتصاله بالبحر الأسود عبر مضيق كيرتش، ليشكّل عقدة عبور مهمة للشحن ونقل الركاب. منذ اندلاع أزمة أوكرانيا، وانضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا، باتت السيادة الروسية تحاصر جغرافية آزوف من الشرق والغرب والجنوب، ولا سيما ضفاف مضيق كيرتش الواصل بالبحر الأسود. قبل أشهر، تحديداً في أيار/ مايو الماضي، افتتح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الجسر العملاق على المضيق، والواصل بين القرم والضفة الروسية بطول 19 كلم، مدشناً مرحلة جديدة في المنطقة، باتت فيها السيطرة الروسية أكثر سطوة، وبدأ معها الروس بتوقيف السفن لتفتيشها. واقع جديد يثير حفيظة كييف بعد أن شلّ نشاط مينائها الأساسي للصادرات الواقع في مدينة ماريوبول، شرق البلاد، رغم وجود اتفاقية ثنائية تمنحها حق الملاحة في آزوف.
الاشتباك الأول من نوعه بين البلدين منذ أعوام، بدأ، وفق الرواية الروسية، أول من أمس، مع احتجاز جهاز الأمن الاتحادي الروسي زورقي مدفعية مدرعين تابعين لأوكرانيا، ومعهما زورق قَطر، إضافة إلى 24 بحاراً كانوا على متن السفن، بعد أن فتحت قوارب الدورية الحدودية الروسية النار على طاقم البحرية الأوكرانية، وأصابت بعض من فيه بجروح، قيل لاحقاً إنها طفيفة وجرت معالجتها. وتعزو الرواية الروسية اتخاذ هذا التدبير إلى استفزاز السفن الأوكرانية عبر دخول المياه الإقليمية الروسية والمناورة على نحو خطير بعد عدم تبليغ السلطات الروسية مسبقاً بخططها وتجاهل التحذيرات بالتوقف. فبحسب وزير الخارجية سيرغي لافروف «الانتهاك حدث بأساليب خطرة إلى حد ما، والمناورة في مضيق ضيق. هذا يمكن أن يخلق ويسبب تهديدات ومخاطر للحركة العادية للسفن في هذه المنطقة».
«الناتو»: تحركات موسكو خطرة وستكون لها تداعيات


في المقابل، نفت كييف ارتكاب أي انتهاكات، واتهمت موسكو بـ«العدوان العسكري» عليها، داعية المجتمع الدولي إلى معاقبتها. وقالت قيادة القوات البحرية الأوكرانية، في بيان، إن قارباً تابعاً لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي أطلق النار على سفن حربية أوكرانية عند مضيق كيرتش، فأصاب ستة جنود، ومن ثم احتجزت قوات خاصة روسية السفن. وقال وزير الخارجية، بافلو كليمكين، إن «هذه أعمال عدائية مخطط لها من قبل اتحاد روسيا ضد أوكرانيا. سنطالب (في مجلس الأمن) بالإفراج الفوري عن بحارتنا وتحرير سفننا». وبلغ الموقف الأوكراني ذروته مع الاستنفار السياسي والأمني، وإعلان الرئيس بترو بوروشنكو، أن موسكو «دخلت مرحلة جديدة من العدوان»، مقدماً مقترحاً إلى البرلمان بفرض حالة الأحكام العرفية مدة 60 يوماً، سرعان ما تراجع عنها إلى 30 يوماً، عقب انتقادات اعتبرت أنها محاولة لإلغاء الانتخابات الرئاسية التي يفترض أن تدعو إليها السلطات نهاية العام. وذكرت الرئاسة الأوكرانية أن بوروشينكو «صدّق على مرسوم الإجراءات الطارئة لضمان سيادة الدولة الأوكرانية واستقلالها وإعلان حالة التأهب في أوكرانيا، الذي أصدره في وقت سابق من اليوم مجلس الأمن القومي والدفاع في البلاد»، قبل أن يصوّت البرلمان ليل أمس بالتصديق على إعلان الرئيس. واحتشد أنصار اليمين الأوكراني أمام مبنى السفارة الروسية في العاصمة كييف، حيث أحرقوا إطارات مطاطية ووضعوا مجسمات سفن، منددين بالهجوم الروسي، وداعين إلى قطع العلاقات مع موسكو.
روسيا التي أعادت فتح مضيق كيرتش، صباح أمس، استدعت دبلوماسياً أوكرانياً، وفق الخارجية، أبلغته احتجاجها على الحادث. لكن وفق مسؤولين روس، فإن ما جرى ليس أمراً مفاجئاً وعابراً، بل «تدبير استفزازي» لجأت إليه كييف في بحر آزوف بتنسيق مع الغرب بهدف تهيئة الأجواء لتشديد العقوبات ضد موسكو، وفق نائب وزير الخارجية غريغوري كاراسين. الأخير رأى أن أهداف الخطوة تتمثل في «هزّ أوكرانيا عبر إعلان حالة التأهب وحشد المشاعر المعادية لروسيا في الغرب وتشديد العقوبات». وقال إن الحادثة «حققت للأسف أسوأ مخاوفنا من أن الغرب وكييف اختارا بحر آزوف حلبة لنشاط استفزازي أوكراني يسبب فضيحة دولية يريدانها»، معتبراً أن مثل هذه الأجواء تسهّل أيضاً على الرئيس الأوكراني خوض حملته الانتخابية.
وفيما توجهت الأنظار إلى ردود الفعل الغربية على ما تعرضت له سفن الحليف الذي تعجّ أراضيه بالقوات «الأطلسية» على تخوم الخصم الروسي، تفاوتت المواقف بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة، فضلاً عن الموقف الموحد في إطار «الناتو». وبدت مواقف فرنسا وألمانيا، راعيتا اتفاق «مينسك 2» (2015) بين كييف وموسكو، الأكثر حرصاً على نزع فتيل التوتر. إذ اقترحت برلين التوسط بين البلدين، وفق ما أشار وزير الخارجية هايكو ماس، الذي قال إن فرنسا وألمانيا «معاً وعند الحاجة كوسيطين من أجل تجنب تحول هذا النزاع إلى أزمة خطيرة». وفيما نددت بريطانيا بـ«العمل العدائي» الروسي، لم تجد فرنسا «مبرراً ظاهراً في استخدام روسيا للقوة». ومن جهتها، أجرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، اتصالاً مع الرئيس الأوكراني، عبّرت فيه عن «قلقها» إزاء الوضع، مشددة على أنه «يتعيّن عدم التصعيد». الموقف الأميركي بدا مختلفاً وأكثر تشدداً مع رفض واشنطن مناقشة التصعيد في مجلس الأمن تحت عنوان دعوى موسكو «انتهاك الحدود الروسية»، ما أسقط عنوان الجلسة عبر التصويت، فيما استمر المجلس بالانعقاد من دون العنوان الأساسي. إلا أن جلسة أمس لم تستمر أكثر من نصف ساعة، حيث رفض ممثلو 14 دولة (ما عدا موسكو) الكلام، ما اضطر المندوب الصيني المترئس للمجلس إلى رفع الجلسة.
وأعلنت المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي، أن بلادها «ستواصل الوقوف إلى جانب شعب أوكرانيا ضد هذا العدوان الروسي»، محذرة من أن «المزيد من التصعيد الروسي سيجعل الأمور أسوأ. وسيزيد من تقويض مكانة روسيا في العالم وكذلك من تعكير العلاقات الروسية مع الولايات المتحدة، والعديد من الدول الأخرى». وجددت التنديد بـ«نمط السلوك الروسي الذي يشتمل على ضمّ مزعوم لشبه جزيرة القرم»، مذكرة بموقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بأن «الولايات المتحدة ترحب بعلاقة طبيعية مع روسيا، لكن الإجراءات الخارجة عن القانون بمثل هذه الخطوة تجعل ذلك مستحيلاً». في الأثناء، عقدت لجنة «الناتو» ــ أوكرانيا في بروكسل اجتماعاً طارئاً، خرج بعده الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، ليحذر من أن المستجدات «خطرة إلى أبعد الحدود... وتحركاتها (روسيا) ستكون لها تداعيات»، موضحاً أن الاجتماع شدد على «دعم وحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها»، داعياً موسكو إلى الإفراج عن السفن والجنود الأوكرانيين «بأسرع وقت ممكن».