غيّرت السياسة والتمويل والتكنولوجيا دور المراسلين الموجودين على الأرض. يقول باتريك كوكبيرن، وهو مراسل منذ أكثر من 40 عاماً، إن انتشار الأخبار الكاذبة/ الزائفة في السنوات الماضية يؤكد حاجتنا إلى شهود العيان في تغطيتنا الاخبارية، ولا سيما في أماكن الصراع.
■ ■ ■

من السهل إعداد تقارير عن الحروب والصراعات، ولكن من الصعب إعدادها جيداً. لا تمتلك الأطراف المشاركة في نزاع مسلح الحافز لقول الحقيقة كاملة. هذا الواقع يواجهه جميع الصحفيين، ولا سيما مراسلو الحرب، إذ إن البروباغندا الإعلامية تصل إلى ذروتها خلال النزاعات المسلحة، ولا سيما أن الفوضى قد تشكّل عائقاً أمام الوصول إلى الحقيقة. غالباً ما يكون القادة العسكريون أكثر إدراكاً من الصحافيين لصعوبة الوصول إلى الحقيقة في مثل هذه الظروف، وبالتالي أكثر تشكيكاً بصحة الأخبار التي تأتي من جبهات القتال.
وبالنظر لهذه الأسباب، شكّك دوق ويلينغتون في إمكانية كتابة أي تقرير حقيقي ودقيق عن «معركة واترلو». من جهته، ألقى الجنرال الكونفدرالي ستونوول جاكسون، خلال الحرب الأهلية الأميركية، الضوء على نقطة مهمة حين التفت إلى أحد مساعديه، وهو يراقب فوضى جبهات القتال، وقال: «هل فكرت يوماً في الفرصة التي تتيحها ساحة المعركة أمام الشخص الكاذب؟». ما كان يحاول الجنرال قوله، أن الحرب تشكّل أرضاً خصبة للأخبار الكاذبة التي يسهل الترويج لها في ظل صعوبة الوصول إلى أدلة تدحضها. لكن المشهد أكثر تعقيداً، ومن السطحي إلقاء اللوم على «فوضى الحرب وغبارها» عند انتشار الأخبار المضللة من داخل أماكن الصراع. في الواقع، هناك منظومة كاملة تعمل على فبركة هذه الأخبار وتضليل الرأي العام خدمةً لمصالح سياسية واقتصادية خاصة.
لطالما كانت البروباغندا، أي التلاعب المتعمد بالمعلومات، عنصراً أساسياً في الحروب، ولكنها وصلت اليوم إلى مراحل غير مسبوقة. (...) اتهام الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وسائل الإعلام المعارضة له بالترويج لـ«أخبار كاذبة»، أظهر لنا كيف أن المعلومات، الصحيحة أو الزائفة، هي دائماً سلاح في يد شخص ما في سلطة. هذا صحيح، لكنه لا يعني أن الحقيقة الموضوعيّة غير موجودة، وأنه لا يمكن الوصول إليها وكشفها من طريق العمل الصحفي الجيّد.
إن عبارة «الحقيقة أولى ضحايا الحرب» حجة خطيرة يستخدمها المراسلون الضعفاء للتهرب من تحمّل المسؤولية، أو قبول ساذج من قبل وسائل الإعلام للرواية التي تدفع بها القوى الموجودة في السلطة خدمةً لمصالحها الشخصية. في الواقع، إن الوصول إلى الحقيقة ليس أمراً مستحيلاً، ولكن من مصلحة الأنظمة الحاكمة أن تُضعف معنويات المنتقدين وتُوهم المراسلين بأن جهودهم لا جدوى منها.
سيخوض الصحفيون، فردياً أو جماعياً، صراعاً دائماً مع البروباغندا، باستطاعة أي طرف فيه أن ينتصر. ورغم أن هذا الاحتمال بالمبدأ صحيح، فللأسف تتوالى انتصارات مروّجي البروباغندا على مراسلي الحرب منذ حرب الخليج الأولى في عام 1991، حتى باتت اليوم تتحكم بمحتوى التقارير الإخبارية التي استغنت كثيراً عن الشهود العيان والمراسلين على الأرض.
وفيما تتعدد الأسباب، يمكن اختصارها بالآتي: تحالفت السياسة والتمويل والتكنولوجيا لممارسة الضغط أو حتى القضاء على أي شخص يحاول الوصول إلى الحقيقة عبر الوجود على الأرض ونقل الواقع كما هو إلى الرأي العام.
هذه الضغوط تأتي من مصادر مختلفة، إلا أن تأثيرها واضح على كل من يعمل في مجال نقل الحقائق، ومن بين ضحاياها: الصحف المحلية في الولايات المتحدة وأوروبا، بالإضافة إلى تقارير مراسلي هذه الصحف حول العالم، الذين تركّز عملهم كثيراً في العقدين الماضيين على نقل الأخبار من داخل جبهات القتال في أماكن الصراع.
منذ عام 1999، وأنا أكتب عن الصراعات الدائرة في الشيشان وأفغانستان والعراق وليبيا وسوريا، التي تسمى أحياناً بحروب ما بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وإن كان بعض جوانبها قد ظهر بالفعل قبل سقوط برجي مركز التجارة الدولية. العمل في مناطق النزاع وكتابة التقارير من أرض المعارك لطالما كانت مهمة صعبة وفي منتهى الخطورة، لكنها أصبحت اليوم أكثر صعوبة. فالتغطية الإعلامية للحرب في أفغانستان والعراق كانت بالطبع دون المستوى المطلوب، لكنها لم تكن بسوء التغطية في ليبيا وسوريا، حيث ظهرت مفاهيم خاطئة تتعدى الأمور التفصيلية العادية لتطاول أسئلة أكثر جوهرية، مثل من حقاً يحارب من؟ ومن هم الرابحون ومن هم الخاسرون؟
غالباً ما يُصوَّر غياب المعرفة أو جهل الحقيقة على أنه شيء يصيب عامة الناس، في حين أن فقط قوى «الدولة العميقة»، القابعة في جحورها في البنتاغون أو الوايت هول أو الكرملين، تعرف حقّاً ما يجري على الأرض. في الواقع، أظهرت التجربة السيئة في الماضي أن هذا الأمر ليس صحيحاً، إذ إن شخصيات سياسية، مثل توني بلير وجورج بوش في العراق عام 2003، اتخذت قرارات بالغة الأهمية على أساس معرفة محدودة ومعلومات مضللة.
وينطبق الأمر نفسه على ديفيد كاميرون ونيكولا ساركوزي وهيلاري كلينتون، الذين اجتمعوا في عام 2011 واتخذوا قرار إطاحة نظام معمر القذافي من طريق «الناتو» في ليبيا. كان من المفترض أن يكون واضحاً منذ البداية أن الميليشيات المعارضة على الأرض لم تكن في وضع يسمح لها باستبدال الحاكم، وأن الفوضى ستكون النتيجة الحتمية للحرب.
أما بالنسبة إلى سوريا، فقد أقنع القادة السياسيون والمؤسسات الإعلامية أنفسهم بأن سقوط الرئيس بشار الأسد كان حتمياً، بينما يمكن أيّ شخص لديه معرفة حقيقية بالمجريات على الأرض أن يتنبأ بأن هذا لن يحدث.
(...)
البروباغندا ليست وسيلة جديدة، لكن الجديد حجم الموارد التي تضخها الأنظمة والحكومات لصياغة الأخبار وإعادة تكوين الرأي العام. فلم تعد الحكومات تمتلك فقط المكاتب الصحفية ووسائل الإعلام، بل أيضاً شركات للعلاقات العامة مختصة في هذا المجال.
في أعقاب فييتنام، أقنع الجيش الأميركي نفسه بأنه خسر الحرب بسبب التغطية الإعلامية المعادية (ليس صحيحاً في رأيي)، وعزم على فعل كل شيء ممكن حتى لا يتكرر ذلك. وظهر ذلك بوضوح خلال حرب الخليج عام 1991، وهو صراع أوجد نموذجاً لإعداد تقارير الحرب، لا يزال قائماً حتى اليوم. لم يكن عمل مروّجي البروباغندا صعباً في تلك المرحلة المبكرة: كان من السهل شيطنة صدام حسين، لأنه كان شيطانياً بالفعل. من ناحية أخرى، كانت القصة الإخبارية الأكثر تأثيراً حينها، في فترة الغزو العراقي للكويت والغزو الأميركي المضاد، بحدّ ذاتها زائفة.
في آب/ أغسطس 1991، كشف تقرير أن جنوداً عراقيين، في مستشفى في الكويت، انتزعوا الأطفال من داخل الحضانات وألقوا بهم على الأرض ليموتوا. وأخبرت فتاة كويتية قالت إنها «تعمل متطوعةً في المستشفى» الكونغرس الأميركي أنها شاهدة على هذا العمل الوحشي. من جهتها، أكّدت «منظمة العفو الدولية» هذه الرواية، التي كان لها تأثير كبير في حشد الدعم الدولي للحرب الأميركية.
لكن في الواقع، كانت الرواية كلّها من وحي الخيال، وتبيّن أن الفتاة التي ادعت أنها شاهدة عيان هي ابنة السفير الكويتي في واشنطن. وفيما سلّط العديد من الصحفيين الضوء على الثُّغَر التي كانت موجودة في الرواية منذ البداية، إلا أن أصواتهم لم تعلُ فوق الغضب الشعبي الذي أثارته الحادثة المزعومة.
شكّلت هذه الواقعة مثالاً كلاسيكياً لانتصار البروباغاندا على الحقيقة: لم يكن من الممكن دحض الرواية بسهولة، وعندما أصبح ذلك ممكناً – بعد الحرب بزمن طويل – كان ذلك بعد أن أحدثت الرواية التأثير المطلوب سياسياً، وأسهمت في حشد التأييد الدولي للتحالف الذي تقوده واشنطن.
وبعد عشرين عاماً في ليبيا، أدت الروايات المفبركة حول وحشية القذافي دوراً جوهرياً في حشد التأييد العالمي لإسقاطه. وقد تلاعبت وسائل الإعلام بقصة امرأة في بنغازي زعمت أنها أجرت دراسة أظهرت أن معظم النساء في مناطق المعارضة التي استعادت قوات القذافي السيطرة عليها، تعرضن للاغتصاب من قبل هذه القوات بناءً على تعليمات رسمية. بعد ذلك بأسابيع، نشرت المنظمات الحقوقية تقارير تنفي هذه الدراسة وتؤكد أنها لم تعثر على أي دليل عن وقوع حالات اغتصاب. ولكن بحلول ذلك الوقت كان اهتمام الصحف قد انتقل إلى مكان آخر.
(...)
من الشائع أن تكون البروباغندا منبثقة من الواقع، ولكنها انتقائية بطبيعتها، تسلط الضوء على ما يخدم مصالحها وتهمّش المعلومات التي قد تشوّه صورتها أو تتعارض مع أجندتها السياسية. على سبيل المثال، فيما كنّا نشاهد صور الأطفال الجرحى والموتى في مستشفيات شرق حلب والغوطة الشرقية، في أعقاب قصف النظام السوري، لم نرَ أي صور للسلفيين الجهاديين المسلحين السوريين والأجانب الموجودين في هذه المناطق. قد تكون هذه المقاطع المصورة حقيقية، ولكنها بالتأكيد انتقائية.
(...)
هناك العديد من العقبات في طريق الوصول إلى الحقيقة، لكن التغلب عليها ممكن. كيف؟ على وسائل الإعلام أن تستعين بصحفيين متمرسين لديهم الخبرة والموارد الكافية على الأرض للوصول إلى الحقيقة والتحقّق من كل جوانب الصراع الذي يعملون على تغطيته. ولكن الواقع اليوم عكس ذلك تماماً. (...) إن معظم الصحفيين الذين عملوا لسنوات من داخل بؤر الصراع وأرسلوا تقارير إخبارية من هذه المناطق، من دون وظائف، فيما اختفت مناطق كاملة حول العالم من الخريطة الإعلامية. فعندما تدفع المؤسسات الإعلامية لمراسلي الحرب من أجل الحصول على معلومات من شهود عيان، فهي لن تستفيد بالضرورة من التقارير التي ستصلها. المستفيدون الوحيدون هم عمالقة الإنترنت الذين لا يوظّفون أي صحفيين للحصول على معلومات.
(...)
في عام 1991، هاجم صديقي الراحل كريستوفر هيتشنز (كاتب) شارلتون هيستون (ممثل)، الذي كان مؤيداً بشدة لقصف العراق، في لقاء تلفزيوني. طلب هيتشينز من هيستون تسمية البلدان التي لها حدود مشتركة مع العراق، فأجاب الممثل الشهير: «الكويت، البحرين، روسيا، إيران»، فأجابه هيتشنز قائلاً: «إذا كنت ستقصف بلداً ما، فعليك على الأقل أن تبذل جهداً لتعرف أين يقع جغرافياً»، مسدداً له الضربة القاضية.
(باتريك كوكبيرن - «ذي إندبندنت» البريطانية)