لندن | بكل المقاييس، فإن زيارة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو لبكين، الأسبوع الماضي، والتي استمرت أربعة أيّام، كانت ناجحة على مستوى المنجز الاقتصادي والثقافي، وتوّجت بتوقيع الطرفين على 28 اتفاقيّة تغطي مجالات عديدة، من النفط إلى الأدوية، ومن التبادل التعليمي إلى إطلاق الأقمار الاصطناعيّة. لكن الأبعاد السياسيّة والجيواستراتيجيّة لهذه الزيارة تبدو أهم بكثير من تلك النجاحات، وتمثّل دفعة قويّة لحكومة الثورة البوليفاريّة في مواجهة الحصار الأميركيّ الذي يشنّ حرباً بأدوات مختلفة لإسقاط نظام كاراكاس تتلاحق فصولها منذ 19 عاماً.ولعل التصريح المتهوّر الذي أدلى به لويس آلماغرو، الأمين العام لمنظمة الدول الأميركيّة، أثناء زيارته لمدينة كوكوتا على الحدود الكولومبيّة مع فنزويلا، من أنه «لا ينبغي استبعاد التدخل العسكري كخيار لإسقاط نظام الرئيس (المنتخب) نيكولاس مادورو» كان أسرع تعليق على الزيارة التاريخيّة من قبل واشنطن، عبر المنظمة التي تضم 13 دولة في القارة الأميركيّة، وتعتبر منذ تأسيسها عام 1948 بمثابة ناد تديره الولايات المتحدة وفق ثقافة أيّام الحرب الباردة.
التصريح تحفظت عليه عدّة دول وأحزاب في مختلف دول القارة ـــ ومنها أنظمة موالية للولايات المتحدة ـــ واعتبرت أنّه لا يمثّل إلا آلماغرو بصفته الشخصيّة. وذهب الحزب الشيوعي في الأوروغواي ـــ التي يحمل آلماغرو جنسيتها ـــ إلى حدّ المطالبة بإقالة الأخير من منصبه، لأنه «تحوّل إلى ناطق باسم الرئيس الأميركي (دونالد ترامب) وعميله نظام كولومبيا (المعادي لفنزويلا) وبيدق بيد إمبرياليّة اليانكي»، وفق بيان الحزب. لكن خطورة محتوى تصريح آلماغرو وتوقيته أثناء زيارة مادورو للصين وإطلاقه من الحدود الكولومبيّة لا تخفى على المراقبين، لا سيّما بعد أن أعلنت كولومبيا مؤخراً دخولها عضواً في حلف شمال الأطلسي، وأنها ستضع القواعد العسكريّة الأميركيّة فيها تحت إدارته.
وافق الصينيون على منح فنزويلا قرضاً إضافياً قيمته 5 مليارات دولار


وبالعودة إلى الزيارة، كانت الدولة الصينيّة ممثلة برئيسها شي جين بينغ ومختلف الكوادر العليا قد احتفت بشكل استثنائي بزيارة مادورو والوفد المرافق. وأعلن لدى انتهاء الزيارة عن توافق الطرفين على منهجة التعاون الاستراتيجي بينهما في مجالات صناعة النفط والغاز والتعدين واستخراج الذهب والحديد والتكنولوجيا الحديثة والاتصالات، إلى جانب أنظمة المدفوعات الإلكترونيّة وتقنيات مكافحة الجريمة والتعليم والصحة والثقافة. كذلك جرى الاتفاق على إطلاق قمر صناعي فنزويلي (رابع) يتم إنجازه بتقنيات مشتركة.
الصينيون وافقوا أيضاً على منح فنزويلا قرضاً إضافياً قيمته 5 مليارات دولار وتقديم تسهيلات إضافيّة بشأن مديونيّة كاراكاس للصين والتي تصل إلى حدود 60 ملياراً. وهو تصويت مهم بالثقة من أهم شركاء فنزويلا الاقتصاديين على مشروع مادورو الاقتصادي الجذري الذي بدأ بتنفيذه الشهر الماضي، ويستهدف وقف التضخم التي عانت منه بلاده في السنوات الأخيرة، بسبب سياسة الحصار الاميركي والغربي أساساً، إضافة إلى جوانب أخرى تتعلق بسوء الإدارة وتفشّي الفساد في بعض مفاصل المجتمع المتوارثة. وقد عبّر الجانب الصيني عن تيقّنه من «أن فنزويلا تجاوزت الأسوأ من الناحية الاقتصاديّة، وأنها تتجه إلى تراكم في النمو خلال السنوات القادمة».
على أن أهم ما أنجز من الناحية الاستراتيجيّة كانت التشبيك المتزايد بين شركات النفط الوطنيّة في كلا البلدين، إذ إن معظم قيمة القرض الجديد ستتجه إلى تحسين كفاءة الإنتاج في شريط أورونكو الفنزويلي الغني بالنفط، ويمتلك احتياطات تزيد على 32 بليون برميل. وسيرفع الجانب الصيني من أجل ذلك حصته من ملكية شركة النفط الوطنية الفنزويلية إلى 49.9%، الأمر الذي سيمكّن نظام مادورو من مواجهة العقوبات الأميركيّة الكثيفة على قطاع النفط الفنزويلي، والتي تسبّبت في تقلص الإنتاج، وإغلاق منافذ التصدير، وملاحقة الأرصدة الفنزويليّة في البنوك العالميّة من خلال أحكام قضائيّة لمصلحة شركات النفط الغربيّة. كذلك أعلنت فنزويلا انضمامها إلى المشروع الصيني المعولم المعروف بطريق الحرير الجديد، والذي يضم خطوط تواصل تجاري وبحري تربط بين 60 دولة، لتكون بذلك ثاني شريك للصين في هذا المشروع من أميركا اللاتينية (بعد الأوروغواي).
الصين وهي تلقي بثقلها وراء مادورو لا شكّ في أنها تمد كاراكاس بمزيد من أسباب القوة في مواجهة العدوان الأميركي، لكن حكماء الصين الصاعدة أيضاً لديهم تصورات بشأن شكل المستقبل أبعد من مجرد التضامن النظري، وتتضمن بالضرورة مصارعة النفوذ الأميركي في العالم من خلال القوة الناعمة. وهم في ما يتعلق بفنزويلا تحديداً، يرون أن توسيع نفوذهم في تلك الدولة ذات الموارد الهائلة في قلب أميركا اللاتينية نقلة استراتيجية في السيطرة على حصة وازنة من تجارة النفط والغاز العالميّة، وصفعة للأميركي في قارة طالما عدّتها واشنطن حديقة خلفيّة.