التجاهل لم يعد خياراً أمام الفاتيكان بمواجهة الفضائح المشينة بارتكاب كهنة ومسؤولين في الكنيسة الكاثوليكية، في دول عدة في العالم، جرائم اغتصاب واعتداءات جنسية بحقّ أطفال، منذ عقود، بعدما أصبحت حقائق لا يمكن التستر عنها بعد اليوم، وفي ظلّ تحلي البابا فرنسيس بجرأةٍ أكبر قليلاً من سابقيه في التعامل مع هذه القضايا. بعد توالي الفضائح المرتبطة باعتداءات جنسية على أطفال في الكنيسة الكاثوليكية، آخرها في ولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة، اعترف البابا فرنسيس، أخيراً، بأن الكنيسة أخفقت في التعامل مع انتهاكات رجال الدين وبالآلام التي تسببوا بها لأطفال وبالغين كانوا ضحايا اغتصاب أو تحرش جنسي على يد كهنة وأصحاب نفوذ في المؤسسة الدينية.
في رسالةٍ غير مسبوقة من الحبر الأعظم لكاثوليك العالم، طلب البابا المساعدة في اجتثاث «بيئة تفضي إلى الهلاك»، متعهداً أيضا بألا يألو جهداً في منع الانتهاكات الجنسية والقضاء على التستر عليها: «أدركنا أن تلك الجراح لا تندمل وأنها تتطلب منا إدانة تلك الفظائع بقوة، والتعاون من أجل اجتثاث تلك البيئة التي تفضي إلى الهلاك».
تطرقت الرسالة خصوصاً إلى تقرير صدر أخيراً عن هيئة محلفين كبرى في ولاية بنسلفانيا الأميركية، إذ قال البابا إن أغلب الحالات الواردة في التقرير «من الماضي»، لكنها توضح أن الانتهاكات «تم تجاهلها لفترة طويلة والسكوت عنها أو إسكات من يتحدث عنها».
وفق مسؤول في الفاتيكان، فإن تلك هي المرة الأولى التي يكتب فيها أحد البابوات رسالة موجهة لكل الكاثوليك في العالم وعددهم 1.2 مليار نسمة عن الانتهاكات الجنسية، علماً أنه سبق توجيه رسائل في شأن الفضيحة لقساوسة أو لأتباع الكنيسة في دول بعينها، مثل تشيلي.

آلاف الضحايا القصّر!
يمكن القول إن هذه الرسالة تأتي كرد على تقرير المدعي العام في ولاية بنسلفانيا، جوش شابيرو، بعد تحقيق استمر عامين. نشرت هيئة المحلفين الكبرى الأسبوع الماضي ما خلصت إليه بعد أكبر تحقيق على الإطلاق ينظر في قضية الانتهاكات الجنسية داخل الكنيسة الكاثوليكية الأميركية، وخلصت إلى أن 301 من قساوسة الولاية ارتكبوا انتهاكات جنسية بحق الآلاف من القصر على مدى السبعين عاماً الماضية.
في وقتٍ سابق، الأسبوع الماضي، عبّر الفاتيكان عن «الخجل والأسف» بعد الكشف عن قضية بنلسفانيا، متعهداً بتحميل المخالفين ومن وفر الحماية لهم المسؤولية. شدّد الفاتيكان حينها على «الحاجة للالتزام» بالقانون المدني، بما في ذلك الإبلاغ الإلزامي عن الانتهاكات بحق القصر، وقال إن البابا فرنسيس يتفهم كيف أن «تلك الجرائم يمكن أن تهز عقيدة المؤمنين وروحهم» وأن الحبر الأعظم أراد «استئصال هذا الرعب المأسوي».
يأتي ذلك بعد أسابيع من استقالة رئيس الأساقفة الأسترالي فيليب ويلسون، وهو أبرز رجل دين كاثوليكي في العالم يُدان بالتستّر على الاستغلال الجنسي للأطفال في الكنيسة الكاثوليكية، فيما جرّد قبله بيومين كبير أساقفة سابق في واشنطن، تيودور مكاريك، من منصب كاردينال لاتهامه بارتكاب انتهاكات جنسية بحقّ قصّر قبل عقود. وقبل أيّام، دعا أساقفة أميركيون إلى إجراء تحقيق يقوده الفاتيكان ويدعمه محققون مدنيون في مزاعم عن ارتكاب كاردينال واشنطن السابق انتهاكات جنسية، لكن لم يرد الفاتيكان في شكل مباشر على طلبهم.

قضية قديمة وعالميّة!
هذه الفضائح، التي تتخذ بعداً عالمياً، ليست جديدة، بل يمكن القول إنها بدأت تظهر للعلن في القرن الماضي في أماكن مختلفة في العالم ومجتمعات مختلفة.
على سبيل المثال، كان مسؤولو الكنيسة الكاثوليكية في أستراليا عام 1996 من أوائل من حاولوا العمل على مواجهة حالة الاعتداءات الجنسية في الكنيسة الكاثوليكية، بإصدارهم لبروتوكول «نحو الشفاء» للتعامل مع «شكاوى الاعتداء». وصولاً إلى اليوم.
في إيرلندا، منذ التسعينات، كان هناك عدد من القضايا الجنائية المرتبطة باعتداءات رجال الدين على قصر «لعقود». التحقيق الذي قادته الدولة وثّق «عشرات آلاف الحالات من الأطفال بين عامي 1940 و1990»، عانوا من التحرّش. تمّت لاحقاً إدانة عدد من الكهنة في هذه الجرائم.
في تشيلي، أثارت قضية الانتهاكات الجنسية، خلال الأشهر الماضية، بلبلةً كبيرة في الفاتيكان وفي أوساط الكنيسة في البلاد. وصل الأمر إلى استقالة 34 أسقفاً، في سابقة في الكنيسة الكاثوليكية. حينها، لم يُعطِ الحبر الأعظم أي إشارات في شأن العقوبات المحتملة ضد رجال الدين الضالعين في هذه القضايا، وبعضهم من يُشتبه في تستره على اعتداءات جنسية. لكن فرنسيس أعلن إجراء سلسلة «تغييرات» على المدى القصير والمتوسط والطويل، لإعادة «العدالة» إلى الكنيسة الكاثوليكية التشيلية، بعد فضائح اعتداءات جنسية على أطفال.
وتطول لائحة الفضائح في الكنيسة الكاثوليكية لتطاول دولاً أخرى مثل كندا والنمسا وبولندا والنروج والهند وبلجيكا، لكن يبقى أكثرها عمقاً في الولايات المتحدة الأميركية. يذكر منها القضية التي سلّطت عليها الضوء صحيفة «ذي بوسطن غلوب» في عام 2002، لتكون بدايةً فعلية للتركيز على هذه المسألة التي تنتشر بشدّة في الكنيسة الكاثوليكية.