وضع المرشد الإيراني قواعد عامة جديدة للمشهد في الجمهورية الإسلامية. خطابٌ مفصلي سيُنظر إليه كمرجعية لمرحلة العقوبات والمواجهة المستجدة، تثبّت توازنات الداخل حيث تتصاعد التجاذبات السياسية على وقع الأزمة الاقتصادية، وتضع إيران في منزلة بين منزلتين: الحرب والتفاوض مع الأميركيين، بعد إعلانه صراحة منع الحكومة من تلبية دعوة دونالد ترامب إلى التفاوض، واستبعاده خطر حدوث حرب ضد بلاده.كلما اشتدت الضغوط الأميركية على إيران، انقلب المشهد في طهران إلى تقارب بين التيارات السياسية من جهة، وتشدد في خطاب القيادة، مترافقاً مع رسائل عالية النبرة من جهة أخرى. يكاد يكون نادراً أن يعارض أحد من الإيرانيين أي شكل من أشكال التفاوض أو الحوار مع الأميركيين كيفما كان. إلا أن مرحلة التصعيد الأميركي على طريقة دونالد ترامب أنتجت شبه إجماع إيراني على ضرورة عدم التنازل، أقله أمام الإدارة الحالية، ورسّخت وجهة النظر التي تقول إن أميركا جهة «غير موثوقة» للتفاوض بعد انسحابها من الاتفاق النووي. حكومة الرئيس حسن روحاني، المصنّفة «معتدلة»، كانت قد سبقت الجميع في الرد سلباً على عرض ترامب للجلوس إلى طاولة التفاوض. فروحاني، ومعه وزير خارجيته جواد ظريف، يرى أن تقديم التنازل للإدارة الأميركية تفريط بما أُنجز في ولايته الأولى من مفاوضات أدت إلى ولادة الاتفاق النووي، وهو ما يجعل تقديم الخطاب المعارض للحوار مع الأميركيين منطقياً أمام الشارع الإيراني المتضرر اقتصادياً من العقوبات، خصوصاً أن صورة ترامب باتت مرتبطة بنقض الاتفاقيات الدولية، والسعي إلى إذلال جميع الدول، العدوة والصديقة، ونهب ثرواتها على طريقة الابتزاز كما يجري في الضفة الأخرى للخليج (السعودية).
تجربة السعودية المفتوحة أمام شهية ترامب لنهب النفط والمليارات، تَمثُل أمام الإيرانيين لتؤكد أن أي رغبة في الاستحصال على «الاعتراف» أو «القبول» دولياً، والعالقة منذ 40 سنة هي عمر الثورة، لا تأتي من بوابة الإخضاع بعد تجربة عقود من الصمود. أهم من ذلك، تجربة تركيا الحالية، حيث اللعبة تتشابه في الاقتصاد والعملة لدى أكثر بلدان المنطقة انخراطاً في التحالف مع واشنطن، حدّ عضوية «الأطلسي» ووجود القواعد الأميركية. بهذه الخلفية، خرجت القيادة الإيرانية، أمس، لتؤكد على لسان المرشد علي خامنئي، وصولاً إلى وزير الخارجية جواد ظريف، أن لا تفاوض مع الأميركيين الآن. قرار بات محسوماً ومُرشَّحاً ليطبع المرحلة المقبلة، ويقفل الباب على وشوشات بشأن مساعي فتح قنوات مفاوضات، قيل إنها سويسرية مرة، وعمانية مرات أخرى. بموازاة حسم الموقف من التفاوض، خرجت رسالة أخرى عالية النبرة، من خلال كشف النقاب عن جيل جديد من صاروخ بالستي قصير المدى من صنع محلي، أطلق عليه الجيش الإيراني تسمية «فاتح مبين». وأكد وزير الدفاع، أمير حاتمي، نجاح التجربة، موضحاً أنه «لا يمكن شيئاً الوقوف في وجه هذا الصاروخ نظراً للدرجة العالية من المرونة التي يتمتع بها». وشدد حاتمي على أن بلاده ماضية في زيادة قدراتها الصاروخية «في كل يوم»، مضيفاً: «تأكدوا أنه كلما تفاقمت الضغوطات والحرب النفسية على شعب إيران العظيم، ازدادت رغبتنا في تعزيز قوتنا الدفاعية في جميع المجالات».
خامنئي: من يدعو إلى استقالة الحكومة كَمَن يؤدي دوراً في خطة الأعداء


وبالتجربة البالستية الجديدة، التي تترافق مع انزعاج أميركي من مناورات القوات البحرية الإيرانية في الخليج، والتصريحات المُجدِّدة انتقادَ دور قائد «قوة القدس» في الحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني، تؤكد طهران ثباتها على عدم الرضوخ للتهديد، بل ومواجهة الاستفزاز باستفزاز مقابل. وقبالة المطلب الأميركي باستهداف ملفَّي الصواريخ والدور الإيراني في المنطقة، يردّ الجيش الإيراني بالتجربة البالستية على الملف الأول، فيما يجيب على الملف الثاني وزير الخارجية في حديث تلفزيوني، بالتأكيد أن بلاده «لن تغير سياساتها في المنطقة بسبب العقوبات والتهديدات الأميركية».
وبالعودة إلى كلام خامنئي حول التفاوض مع واشنطن، يتّضح تركيز خطاب الزعيم الإيراني على عدم ملاءمة الظرف للتفاوض مع الإدارة الأميركية، حيث إنها «مرة تَعِد بمفاوضات بلا قيد وشرط مسبق، ومرة تُلحقها بشروط وقيود»، وهو ما رأى فيه خامنئي «سخرية ولعبة سياسية». ورأى أن الأميركيين «لا يقدمون سوى وعود خاوية مقابل ما يحصلون عليه، وإذا نالوا مبتغاهم يضربون بالوعود التي قطعوها عرض الحائط»، متسائلاً: «هل من المعقول التفاوض مع دولة كهذه؟». ومع أن خامنئي بدا مستدلاً بالظروف الحالية لاستبعاد التفاوض، إلا أنه في الوقت نفسه أظهر تشدداً في التمسك بهذه السياسة مبدئياً، بالقول: «لقد حدّدنا خطوطاً حمراء منذ البداية، لكن لم يُلتزَم بها، فبناءً على ذلك نقول إن الإمام الخميني منع التفاوض مع أميركا وأنا أيضاً أمنع ذلك». أما التهديدات بالحرب، فهي أمر غير جدي بالنسبة إلى المرشد الإيراني، إذ استبعدها ووضعها في إطار سياسة أميركية تستهدف «إرهاب الجبناء فحسب».
خطاب خامنئي لم يغفل الشقّ الداخلي والمشهد السياسي المحتدم على وقع الاضطرابات وتبادل التيارات السياسية الاتهامات. إذ رسم خطوطاً جديدة للمشهد الداخلي، بتحييد حكومة روحاني عن دعوة الاستقالة التي تبناها أخيراً الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، بقوله إن «من يدعو إلى استقالة الحكومة كَمَن يؤدي دوراً في خطة الأعداء»، إضافة إلى وضع حد لبعض الدعوات إلى التفاوض مع ترامب. وتلك حماية يحتاجها فريق روحاني الذي بنى سياسته على الحوار مع الغرب، وفاز بولاية ثانية بناءً على تجربة التفاوض النووي. بالتوازي مع ذلك، حمّل خامنئي الحكومة مسؤولية الوضع الاقتصادي بالدرجة الأولى، وبمستوى أعلى من تأثيرات العقوبات، وهو ما يشكل دفعاً إلى إنجاز سياسات لتحسين الملف الاقتصادي تكون أكثر ملاءمة للحظر وتداعياته، ولتكثيف حملة مكافحة الفساد التي أطلقتها السلطة القضائية. وتُعدّ تصريحات خامنئي الأخيرة مفصلاً في النقاش الدائر حول كيفية التعامل مع المرحلة الجديدة في إيران، عبر إرساء قواعد عامة على خطَّي الداخل والخارج، لكنها لن تقفل النقاش حول إمكانية تواصل بأي شكل من الأشكال مع الأميركيين، خصوصاً في ملفات إقليمية حساسة قد تحتاج إلى تسويات، ولو على غير ما يطلبه الأميركيون من لقاءات سياسية مباشرة وعلى مستويات رفيعة.