خلال أيّام قليلة، انهارت قيمة الليرة التركية، بعدما تأرجحت بشكلٍ مستمرّ خلال الأشهر القليلة الماضية، منذرةً طوال تلك المدّة بأزمةٍ مالية تضرب الاقتصاد التركي، الأسوأ منذ أزمة عام 2001. وضع الليرة التركية الذي كان جنونياً قبل ثلاثة أشهر، أصبح الآن أكثر جنوناً، تواجهه الحكومة الحالية بـ«نظرية المؤامرة». غير أن الانزلاق المستمرّ للعملة التركية وما يعنيه ذلك من تدهور في المؤشرات الاقتصادية للبلاد، يضع في مهبّ الريح حلم الرئيس التركي لعام 2023 بأن تكون تركيا من بين أكبر 10 اقتصادات في العالم. خمسة أسئلة وأجوبة لفهم ما الذي يحصل حقاً للعملة التركية.

ما الذي يحصل لليرة التركية؟
قياساً بالدولار، كانت الليرة التركية، قبل خمس سنوات، 1,92. أما خلال الساعات الماضية، فقد لامست الليرة مستوى قياسياً جديداً عند 7,24 ليرات للدولار في التعاملات المبكرة في آسيا والمحيط الهادي، لتستقر الآن عند مستوى 6,8، وهو لا يزال مستوى منخفضاً جداً، مقارنةً باليومين الماضيين حيث كانت الليرة حوالى 6,4 مقابل الدولار. بهذا، فقدت العملة التركية نحو 40 في المئة من قيمتها منذ بداية العام، لتكون من أسوأ العملات أداءً في العالم، حتى قبل الأزمة الحالية.

ما أسباب هذا الانهيار؟
لهذا الانزلاق أبعاد داخلية وخارجية، ترتبط أولاً بالاقتصاد التركي نفسه، وثانياً بأسباب سياسية.
اقتصادياً: يواجه الاقتصاد التركي تحديات حقيقية. يعاني عجزاً في الحساب الجاري، مع مستويات عالية من الديون الخارجية في القطاع الخاص، بالإضافة إلى تمويل أجنبي مرتفع جداً للقطاع المصرفي. التضخم يرتفع بسرعة كبرى – أكثر من 15 في المئة خلال شهر تموز/ يوليو. يقابل ذلك انخفاضٌ في مستويات الفائدة، وارتفاع في الدين الحكومي من العملات الأجنبية.
هناك تخوّف أيضاً من إفلاس قطاع البناء بعد سنواتٍ من النمو، ما يضع المصارف أمام ديونٍ متزايدة.
سياسياً: الانزلاق الكبير الحالي يرتبط بالأزمة بين واشنطن وأنقرة، منذ أن طالبت الولايات المتحدة تركيا بالإفراج عن القس الأميركي المحتجز هناك، أندرو برانسون. تلا ذلك فرض واشنطن عقوباتٍ على وزيرين تركيين، وأزمة دبلوماسية بين البلدين الحليفين في «حلف شمالي الأطلسي».
ثمّ، وبتغريدة واحدة من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أعلن فيها رفع الرسوم الجمركية على الصلب والألومنيوم التركيين، حصل الانزلاق الكبير.
مواجهة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، لهذه الأزمة بخطاب سياسي شعبوي أثّر سلباً على عملة بلاده، إضافةً إلى أن المخاوف من زيادة هيمنته على السياسات المالية للبلاد والمصرف المركزي، منذ أيار/ مايو الماضي وبعد انتخابات حزيران/ يونيو، أزّمت الوضع أكثر. يرتبط هذا خصوصاً بموقف الرئيس التركي من أسعار الفائدة المرتفعة، فهو يرفضها، علماً بأنها ضرورية لمواجهة الأزمة الحالية وتحقيق استقرار في العملة والسيطرة على التضخم.
كرّر إردوغان موقفه من أسعار الفائدة أمس، بقوله إنها «أداة استغلال تزيد الفقراء فقراً والأغنياء غنًى».

ماذا فعلت السلطات لمواجهته؟
«نواجه مؤامرة سياسية جديدة. وسنتخطاها بإذن الله»، هكذا قال إردوغان، أمس، من دون أن يوضح كيف ستتخطى تركيا هذه الأزمة.
وبعيداً عن خطاب المؤامرة الذي اشتهر به الرئيس التركي منذ حصول الانزلاق الكبير بالعملة التركية، وحديثه عن «طعن بالظهر» قامت به واشنطن بحقّ حليفتها أنقرة، تصرّف المصرف المركزي أخيراً، اليوم.
وقال «المركزي» التركي، اليوم، إنه سيؤمن السيولة اللازمة التي تحتاج إليها المصارف، وسيتّخذ «كل التدابير اللازمة» لضمان الاستقرار المالي. كما راجع البنك المركزي التركي معدلات الاحتياطي الإلزامي للمصارف تفادياً لأي مشكلة سيولة، وذكر أنه سيتم ضخ سيولة بقيمة 10 مليارات ليرة وستة مليارات دولار وثلاثة مليارات دولار من الذهب في النظام المالي.
من ناحية ثانية، تحدّث إردوغان عن فرص جديدة لتركيا، مع روسيا والصين. قال إن تركيا تسعى بشكل متزايد وراء تشكيل تحالفات جديدة، وإن علاقاتها مع روسيا شهدت تقدماً، وأشار إلى أن توافق الرؤية الاقتصادية الصينية مع رؤية تركيا يتيح فرصاً جديدة للتعاون. ومع بلوغ أزمة الليرة ذروتها، ناقش إردوغان أيضاً، الجمعة، مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين.

ما نتائج ذلك على المستقبل؟
حقّقت تلك التدابير الأخيرة بعض الاستقرار، لكن المستقبل يبدو مُظلماً. تهدد تركيا أزمة ديون لجهة أن نسبةً كبيرة من ديونها للخارج هي بالعملات الأجنبية. ومع استمرار إضعاف الليرة، يصعب على تركيا التعامل مع ديونها، وهو بدوره سيزيد من تدهور العملة المحلية، وخصوصاً مع ارتفاع نسبة التضخم. كذلك، ستؤدي عقوبات ترامب إلى خروج المستثمرين الأجانب من السوق التركية.
قد تستدعي أزمة ديون حادة تدخلاً إنقاذياً من البنك الدولي، لكن نظراً إلى موقف الرئيس التركي من رفع معدلات الفائدة، من المرجح أنه أيضاً لن يلجأ إلى المجتمع الدولي للمساعدة فوراً، وهو ما يعني مزيداً من الغموض لمستقبل اقتصاد البلاد.
قد تنقلب الآية في حالتين، أولاهما استجابة تركيا لمطالب الأميركيين، لتعود العلاقات إلى طبيعتها، ما سيخفف الضغط على الليرة التركية. الحلّ الثاني هو تخفيف التدخل السياسي في السياسات المالية للبلاد وفي المصرف المركزي الذي يجب أن يكون مستقلاً. قد تساعد تلك الحلول البديهية في تخفيف الضغط على الليرة، لكن ضعف المؤشرات الاقتصادية للبلاد لا يبشّر بنهاية سعيدة وسريعة لهذه الأزمة.

ما أثر ذلك على الأسواق العالمية؟
ردة فعل الأسواق العالمية على انهيار الليرة التركية كانت سريعة ومباشرة. تراجعت الأسهم الأوروبية وسط هزة عنيفة في السوق أثارها هبوط حاد لليرة التركية، ومع تضرر مصارف كبرى في أوروبا من مخاوف تتعلق بانكشافها على تركيا.
كذلك، فإن أزمة ديون في تركيا سيكون لها تأثير على الأسواق الأوروبية والمؤسسات المالية، كما أن هبوط الليرة يزيد من إضعاف اليورو ومن تقوية الدولار الأميركي.
الجمعة، تضرر اليورو كثيراً بعدما نقلت صحيفة «فايننشال تايمز» عن مصدرين قولهما إن البنك المركزي الأوروبي قلق بشأن بنوك إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وانكشافها على تركيا.


تشديد على وسائل الإعلام
وضعت السلطات التركية انتقادات وتعليقات المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي بشأن الأزمة المالية في إطار «الهجمات الاقتصادية» على البلاد، لتمنع أي تعليق بشأن الأزمة تحت طائلة الملاحقة القانونية، وربطت التعليقات الإعلامية بشأن الأزمة بالقوى المحرّكة لمحاولة انقلاب تموز 2016.
وأعلنت وزارة الداخلية التركية، اليوم، أنها فتحت تحقيقات بحق مئات رواد الإنترنت يشتبه في أنهم تناقلوا تعليقات اعتبرت «استفزازية» بهدف إضعاف الليرة. وضع المتحدث باسم إردوغان التغريدات في إطار «الشائعات»، علماً بأنه رغم حجم الأزمة المالية لا تغطي الصحف الرئيسية وشبكات التلفزيون في تركيا كثيراً الأنباء عن وضع الليرة وتنشر فقط خطاب الرئيس.
وعنونت الصحف الرئيسية، اليوم، عبارة لإردوغان، أشارت إلى «التلاعب» بالعملة التركية.