لا أهمية للحقائق في قاموس تكوين صورة اقتدار إسرائيل أمام جمهورها وأعدائها، وكذلك أمام حلفائها وأصدقائها. الحقيقة، كما هي، لا تفسد حقيقة موازية، يجري العمل عليها وعلى تنميتها وزرعها في الأذهان، حتى وإن كانت مثقوبة وموهومة ومغايرة للواقع. ما يهم إسرائيل، وهو ما يتماشى معه البعض، هو تشكّل وتركز صورة اقتدارها مهما كان الواقع دالاً على صورة مغايرة. عُرضت ساعة الجاسوس الإسرائيلي، إيلي كوهين، للبيع في المزاد العلني على الإنترنت. ساعة كوهين، إن صحت رواية هوية هذه الساعة لمن عرضها للبيع، هي التي كان يرتديها في سنوات الجاسوسية في سوريا، إلى أن أُعدم عام 1965. عدد قليل من المتصفحين اهتم بالساعة، فيما تناقل إسرائيليون العرض حتى وصل إلى جهاز الموساد الذي سارع الى شرائها عبر بطاقة ائتمان عبر الشبكة العنكبوتية.ما إن وصلت الساعة إلى إسرائيل، وفقاً للعنوان الوارد في طلب الشراء، حتى سارع خبراء «الموساد» إلى فحص الساعة والتأكد من أنها فعلاً تعود للجاسوس كوهين. في ذلك، يشير البيان الصادر عن «الموساد»، والمعمّم على وسائل الاعلام العبرية، إلى أنّ «فحوصات بحثية ونشاطات استخبارية، نفّذت بعد إعادة الساعة إلى إسرائيل، خلصت جميعها بشكل لا يقبل التأويل، إلى أن المسألة تتعلق بساعة كوهين».
حتى هنا، لا شيء فوق المعتاد. لكن المسألة، كغيرها من المسائل التي لم تظهر تفاصيلها إلى العلن، تصلح كي تكون مسألة افتخار وتظهير قدرة استخبارية غير عادية لدى الأجهزة الاسرائيلية، من شأنها أن تضيف عامل ثقة بمستوى أعلى لدى الجمهور من جهة، وتضيف كذلك عاملاً رادعاً إضافياً، ربما، لدى الأعداء. هذان العاملان دفعا قيادة «الموساد» إلى قرار، لا يبدو مخالفاً في مضمونه وأوجه استغلاله لقرارات أخرى في مسائل أمنية عرضت في الماضي، والحديث عن إنجاز غير مسبوق وعملية جريئة نفذها عملاء «الموساد»، خيضت ونفذت في قلب أراضي العدو، الأمر الذي أدى إلى استعادة ساعة كوهين.
كشفت ابنة كوهين عن طريقة شراء ساعة أبيها الجاسوس


على هذه الخلفية، قرّرت قيادة «الموساد» استغلال «عملية الشراء عبر الانترنت»، وإلباسها لبوس الجرأة والشجاعة والمهارة الجاسوسية غير المسبوقة. في بيان عُمّم على المراسلين العسكريين والأمنيين في الإعلام العبري، وردت مادة التقرير الواجب عرضه على الجمهور، في تطابق شبه تام بين جميع التقارير المعروضة إعلامياً عبر المراسلين والمعلقين: «الموساد يستعيد ساعة الجاسوس إيلي كوهين في عملية خاصة»، فيما جاء في بيان لـ«الموساد» أن رئيسه يوسي كوهين عرض هذه الساعة في مراسم لإحياء ذكرى الجاسوس، أقيمت قبل أسابيع، مشيراً إلى أن الساعة معروضة في مقر «الموساد»، كوسام وتخليداً لـ«المقاتل الأسطوري» كوهين، موضحاً أن «دولة مُعادية احتفظت بالساعة بعد إعدام كوهين»، من دون ذكر اسمها.
مع رواية «العملية الخاصة» كما وردت في بيان الموساد الموزع على الإعلام، والتي أضيف إليها «التي نفذت في أراضي دولة عدوة»، كما ورد في التعليقات المعمّمة على الاعلاميين، تماشى أيضاً رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي سارع أيضاً إلى «قطف» الانجاز الاستخباري والإشادة «بالعملية الجريئة والشجاعة».
لكن من الذي كشف الحقائق ومبالغات إسرائيل الرسمية وسردية «العملية الجريئة في أرض العدو»؟ هي ابنة كوهين نفسه، صوفي بن دور، في مقابلة إذاعية صباح أمس، إذ قالت رداً على سؤال: «لقد جرى شراء الساعة عبر الانترنت وبشكل فجائي بعد عرضها. فحصوا قبل الشراء هوية العارضين، ووجدوا أنها معقولة ويمكن الثقة بها، فقاموا بشراء الساعة. لا أعلم المبلغ الذي دفعوه في مقابلها، وأنا لا أعرف ماهي الفحوصات التي أجريت (على الساعة)، لأنها لم تكشف أمامي». إذاً، العملية الجريئة والشجاعة لمقاتلي «الموساد»، بحسب تعبير نتنياهو، وفي أرض الدولة العدوة كما يرد في التعليق شبه الموحد للإعلام العبري، هي مجرد مصادفة لا جرأة فيها ولا شجاعة، كما حاولت تل أبيب الإيحاء.
مع ذلك، في عصر «ما بعد الحقيقة»، لا تهم الحقائق بل ويمكن تجاوزها، وهي معطى لا يتجاوز كونه هامشياً في تشكيل الصورة وتقويم الواقع. المهم في هذا المشهد التي احترفت إسرائيل تنفيذه وسلوكه، وإن وقعت في أخطاء كاشفة فاضحة لها بين الحين والآخر، المهم فيه هو ما يتركز في أذهان الجمهور الإسرائيلي وجمهور الأعداء، وكذلك الأصدقاء، حول اقتدار إسرائيل استخبارياً، سواء كانت الصورة مبنية على حقيقة أو على أوهام، أو كما هو الحال الآن في معطى ساعة كوهين، على تجاوز الحقيقة للتركيز على إنجاز لم يقع في الأساس. هذا ما أقدمت عليه إسرائيل الآن، وهو ما كانت وستبقى تقدم عليه للآتي من الوقائع وتحويرها. ومن دون المبالغة أو العمل على تقليص اقتدار الاستخبارات الإسرائيلية، لكن ما بين المبالغة والواقع فروق، ولعلّ في الآتي أيضاً ما يكشف ما كان مبالغاً أو مفبركاً من انجازات، رسخت في الأذهان حول هذا الاقتدار.