أعادت الإدارة الأميركية المنطقة إلى زمن «الحرب الباردة» مع إيران. ينتقل الصراع إلى مرحلة تصعيدية ستخيّم فوق الإقليم من الآن فصاعداً، وترهن مصير جملة من ملفاته بنتائج مواجهة اكتملت أركانها. باتت الإدارة الأميركية تتصرف وفق «حالة الحرب». لا يخفي الرئيس دونالد ترامب وفريقه برنامج المعركة وأدواتها، وأحياناً جدولها الزمني، كما هي سمة عمل الإدارة الأميركية الحالية في المصارحة بكل ما تفكر فيه أو تعمل عليه. ذلك لا يعني بحال من الأحوال وضوح مآلات التوجه الأميركي الجديد ضد طهران، وطبيعة كل الخيارات المنشودة في واشنطن. الأكيد حتى الآن أن في صفوف فريق ترامب المتخم بالصقور والمتطرفين من يدعو إلى ضرب الجمهورية الإسلامية عسكرياً، لكنه ليس خيار الأعم الأغلب في الإدارة، بمن فيهم الرئيس.تتبُّع خطوات ترامب في التعامل مع الملف الإيراني، خصوصاً منذ الانسحاب من الاتفاق النووي، يفسّر استراتيجية البيت الأبيض على أنها «حركة تصحيحية» للاستراتيجية الأميركية المعتمدة تجاه إيران في العقدين الماضيين. الخطط التي يأخذ بها الرجل هي أيضاًَ الخطط القديمة نفسها، مع تعديلات تلحظ فشل تلك الوسائل أو قصورها عن تحقيق كامل الأهداف الموضوعة. الرؤية الجديدة تفترض، ضمناً، أن لا عيب في الاستراتيجية القديمة سوى عدم الذهاب بها إلى الآخر، وسرعة التراجع عنها مع توقيع إدارة باراك أوباما الاتفاق النووي، في وقت كانت فيه إيران تقترب من «الاختناق» كما يحاجج ترامب على الدوام. لكن المشترك في الرؤيتين هو استبعاد الحرب العسكرية كتكتيك يتصدر قائمة العمل. وباختصار، ينتقل ترامب من «الحرب الناعمة» التي نظّر لها أوباما عبر إغراق المجتمع الإيراني بالانفتاح الاقتصادي لإحداث تبدلات في طبيعة النظام أو فتح فجوة بينه وبين الشعب، إلى استراتيجية تستهدف إحداث هذه الفجوة ولكن بالطريقة «الخشنة»؛ أي تشديد الحصار، فتجويع الشعب إلى درجة ينتفض معها على النظام والحكومة.
في خطابه الأخير، أكد المرشد الإيراني علي خامنئي وضوح «مخطط العدو» في منظار طهران، ملخصاً إياه بمحاولة «خلق الفجوة» بين النظام والشعب. في المقابل، تشدد واشنطن على إدراكها في فصل المواجهة الجديد أهمية «شعبية» النظام القائم في طهران، واضعةً كسر هذا الالتفاف الشعبي موضع المحور من السياسات الجديدة. وخطورة الاستعداد الأميركي تتمثل في التقاطع مع الحلفاء الإقليميين، وفي مقدمهم السعودية، عند هذا الهدف: اختراق الداخل الإيراني. ولدى جانبي المعسكر، الرياض وواشنطن، ثقة بالقدرة على تحقيق ذلك، أو على الأقل البرامج والتمويل الكافي لتعويم الحالات الإيرانية المناوئة للنظام بشكل أكثر فاعلية من الماضي. اجتماعات حثيثة، وبرامج تمويل سخية، ومحاولات لتوحيد المجموعات في الخارج، في موازاة الاستثمار في فئات المحتجين في الداخل، لا سيما الاحتجاجات الأخيرة وما سبقها. كل ذلك يجري على قدم وساق، وانضمت دولة الإمارات إليه، بعد السعودية. وقد تجلت هذه المشاركة الإماراتية في ملفين: استخدام المنصات الاقتصادية في دبي وأبو ظبي لضرب العملة والاقتصاد الإيرانيين، والدعم الإعلامي واللوجستي للمعارضة الإيرانية في الخارج.
لا تزال إيران تحتفظ بأوراق وفيرة على صعيد السياسة الخارجية


وبدأت الصحافة الخليجية بالاحتفاء باقتراب السيف من رقبة النظام الإيراني، مُفسِّرةً ما يجري في إيران من تأثر اقتصادي بالعقوبات الأميركية على أنه ضربة قاصمة لطهران لن تنجو منها، أو في الحد الأدنى انهيار لـ«مشروعها الإقليمي». وتجلت الرعاية الخليجية في مؤتمر عُقد في باريس لما سمّاها الإعلام الخليجي «المقاومة الإيرانية»، حيث خرجت دعوة إلى تشكيل جبهة موحدة لأطياف معارضة الخارج. وبدا الاهتمام استثنائياً بالمؤتمر الذي حضره الأميركي رودي غولياني، المقرّب من الرئيس ترامب ومحاميه الشخصي. وأغرق غولياني الحاضرين، في خطاب ألقاه، بآمال كبيرة بمخطط ترامب ضد طهران، مؤكداً أن الهدف هو «تغيير النظام»، ومتوقعاً أن يحدث ذلك خلال عام. التفاؤل نفسه كان قد بثّه مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون، خلال انعقاد النسخة السابقة من المؤتمر العام الماضي. حينها لم يكن بولتون في منصبه الحالي، لكنه أبلغ المجتمعين أنهم «سيحكمون إيران قبل عام 2019».
ما بين هذه الوعود المضخمة، سواء للمجموعات الإيرانية المتحالفة مع واشنطن أو للخليجيين الذين يرفعون من سقف آمالهم بما يجعلهم يضحون بأوراق النفط والأمن في المنطقة في سبيل ذلك، وبين التصريحات الرسمية للإدارة الأميركية، فارق شاسع. يؤكد هذا المنحى الربط الدائم الذي يقيمه ترامب بين ملفّي كوريا الشمالية وإيران، وحديثه الصريح عن أن أقصى طموحه هو الضغط لجلب إيران إلى طاولة المفاوضات، وإبرام اتفاق «جيد» معها حول الملفات الإقليمية. يشعر الرئيس الأميركي بثقة في قدرته على تحقيق المشروع وتكرار تجربة الحوار مع بيونغ يانغ. في المقابل، لا تفصح طهران عن استعداد لخوض حوار مع الأميركيين، وتتمسك برفض التفاوض على دورها الإقليمي. وهو ما يشكك فيه البعض، ممن يشير إلى حوار يجري في الخفاء بين الطرفين على بعض الملفات، ربما تظهر بوادر منه في العراق على شكل تسوية سياسية. إلا أن هذه المعلومات ليس ثمة ما يدعمها في تصريحات الطرفين، ولا في حالة الاستنفار التي تعيشها المنطقة على خلفية مشروع «صفقة القرن» الذي يحدث فالقاً ضخماً بين طهران وواشنطن، تصعب معه أي أشكال الالتقاء.
أما الجواب عن سؤال: إلى أين ستذهب واشنطن بعد مدة من دخول عقوباتها حيّز التنفيذ في تشرين الثاني المقبل (يُطبَّق جزء منها في تموز الجاري)؟ فيتكفل به مدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية، برايان هوك، بالقول إن «الهدف ليس تغيير النظام بل تغيير تصرفاته». هوك، الذي ينشط منذ أشهر داخل الإدارة لتفعيل حملة تشديد الطوق على إيران، كشف عن تشكيل «بعثة تضم عدداً من المسؤولين الأميركيين، ستحل في الخليج خلال الأيام المقبلة، في إطار الاستمرار في حملة الضغط ضد النظام الإيراني». فـ«الدبلوماسية الأميركية تعمل على التنسيق مع حلفائها من أجل وضع حدّ لتصرفات إيران» وفق هوك، والهدف «زيادة الضغط على إيران، وأن لا تكسب المزيد من مداخيل البترول، والحد من قدراتها». إشارة هوك إلى التنسيق مع الخليجيين تكشف جدية ترامب في مشروع ضرب النفط الإيراني، وترجمة اتصاله الهاتفي الأخير مع الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، حيث اتفقا على رفع إنتاج النفط السعودي ليحل بدلاً من الإمدادات الإيرانية.
أما في الخندق الإيراني المقابل، فالأجواء لا تقل «حماوة» عن العمل الأميركي. تبدو طهران قد شارفت على إنجاز خططها البديلة للمواجهة، بشقيها الاقتصادي والسياسي. وهي إذ تظهر بمظهر المنشغل بملف توحيد صفوف تياراتها وتحصين جبهتها الداخلية، لا تغفل قدرتها على المناورة بجملة من ملفات السياسة الخارجية. وهنا ثمة من يحذر من سيناريو قريب من السيناريو السوري، تتطلع الإدارة الأميركية إلى تكراره داخل حدود إيران، بمساهمة خليجية، ما يحتّم عملاً إيرانياً على سدّ الثغرات في الجبهة الداخلية، وبوابة ذلك خطة اقتصادية للطوارئ تقول حكومة الرئيس حسن روحاني إنها أنجزتها في الآونة الأخيرة، وتتضمن سلة من الإجراءات الاقتصادية تتعلق بالاقتصاد والتعاون مع دول الجوار. أما على صعيد السياسة الخارجية، فلا تزال طهران تحتفظ بأوراق وفيرة، أهمها عدم حماسة الأوروبيين للانخراط في حرب ترامب، وتفضيلهم استراتيجية أوباما «الناعمة»، سواء لحسابات أمنية أو تجارية أو سياسية، فضلاً عن صعوبة تجاوب القوى الاقتصادية الكبرى في العالم مع واشنطن، وفي مقدمها بكين ونيودلهي. إقليمياً كذلك، ليس ثمة ما يسمح بليّ ذراع إيران في ملفات المنطقة المائلة لصالحها، بما في ذلك «صفقة القرن» التي ستعود بنتائج عكسية على طهران، لكونها تعزز الالتفاف حول سقف خطابها المرتفع بوجه إسرائيل لدى الكثير من القوى الإقليمية الرافضة للمشروع.



إيران: لا معنى للتهديد بمنع نفطنا
انضمّت الإمارات، أمس، إلى السعودية، في الإعلان الصريح عن الاستعداد لسدّ أي نقص في سوق النفط قد ينجم عن العقوبات الأميركية على إيران، بالتوازي مع توجيهها بتجميد حسابات 9 أسماء وكيانات تحمل الجنسية الإيرانية كانت أدرجتها على «القائمة السوداء». وأعلنت شركة «بترول أبو ظبي الوطنية»، بدورها، أن في مقدورها زيادة إنتاجها بمئات الآلاف من البراميل يومياً «إذا كان ذلك ضرورياً». من جهتها، كررت السعودية إبداءها جاهزيتها لزيادة إنتاجها من النفط. وأكد مجلس الوزراء السعودي، أمس، أن المملكة «على استعداد لاستخدام طاقتها الإنتاجية الاحتياطية عند الحاجة للتعامل مع أيّ متغيرات مستقبلية في معدلات العرض والطلب على البترول، وبالتنسيق مع الدول المنتجة الأخرى». وكانت الولايات المتحدة أبدت، أول من أمس، تمسّكها بـ«زيادة الضغط على النظام الإيراني عبر خفض إيراداته من بيع النفط الخام إلى الصفر». وهو ما ردّ عليه الرئيس الإيراني حسن روحاني بالقول إنه «لا معنى لعدم تصدير النفط الإيراني بينما يجري تصدير نفط المنطقة»، مخاطِباً الأميركيين بـ«(أنكم) إذا كنتم تستطيعون فافعلوا، وسترون نتيجة ذلك».
(الأخبار)