يشغل الفيلسوف الفرنسيّ إتيان باليبار منصب أستاذ شرفيّ في «جامعة باريس العاشرة». يتبنّى الماركسيّة، وله أكثر من 20 مؤلفاً من أبرزها «قراءة رأس المال»، الذي تعاون في إنجازه مع أستاذه لوي ألتوسير وجاك رانسيير وآخرين، و«العرق، الأمة، والطبقة» الذي كتبه بالاشتراك مع إيمانويل والرشتاين. يناضل باليبار منذ زمن بعيد لصالح القضيّة الفلسطينيّة، ويشغل عضويّة لجنة دعم «محكمة راسل حول فلسطين»، وهي محكمة شعبيّة تسعى لوضع حدّ لإفلات إسرائيل من العقاب، كما صار مؤخراً يدافع عن «المهاجرين غير النظاميّين» لأوروبا في وجه الخطاب اليمينيّ المتصاعد في أرجاء القارة.
■ الحكومة الإيطاليّة تضع الاتحاد الأوروبيّ في موقف صعب، وهي في الواقع تبتزّه. في حال وجود ذلك، ما هي الإجراءات التي ستتخذها بروكسيل للردّ؟
لم يصدمني سوى أمر واحد: تصريح رئيس المفوضيّة الأوروبيّة جان كلود يانكر، الذي قال فيه إنّهم لن يكرروا مع إيطاليا نفس الخطأ الذي ارتكبوه مع اليونان. يوجد في خلفيّة التصريح اعتراف بأنّه وقع ارتكاب خطأ مع اليونان، لكن ما هي طبيعته وفقاً للمفوضيّة؟ هل هو خطأ جوهريّ، أي فرض سياسة تقشّف وتدمير الاقتصاد الوطنيّ كوسيلة لحلّ مشكلة الديون؟ أم هو مجرّد خطأ شكليّ كما يقول تأويل مفوّض الشؤون الاقتصاديّة بيار موسكوفيتشي؟
الفكرة هنا تتعلّق بتجنّب الدخول في صراع حادّ مع إيطاليا، على شاكلة ما وقع مع اليونان، حيث لا يملك الاتحاد القوّة لفعل ذلك. لكن يجب التذكير أنّه في حالة اليونان، كانت (ولا تزال) توجد حكومة يساريّة، بينما توجد في إيطاليا حكومة شعبويّة تميل نحو أقصى اليمين. وبعيداً عن نظريات المؤامرة، يمكننا ملاحظة أنّ التكنوقراطيّة الأوروبيّة، وإن كانت لا توظف الحركات الشعبويّة، إلا أنّها تُفضّلها على القوى الديموقراطيّة اليساريّة، وتعتبرها أخفّ الضررين في وجه الاستياء الشعبيّ المتنامي، لكنّ سياسة أخفّ الضررين خيار خاطئ يُفاقم العجز عن الحكم الذي ينتشر من بلد إلى آخر.
شيئاً فشيئاً، ينمو الغضب الموجّه نحو الحوكمة الحاليّة للدول وللاتحاد، وهو بصدّد التجذّر ــــ ما حصل في اليونان، البريكست، والآن إيطاليا. لكن وبما أنّه لا مصلحة لأحد في مغادرة الاتحاد، نتّجه الآن نحو تحلّل داخليّ وتحييد متبادل. أنا آسف، ولكنّي متشائم راديكاليّ.

■ نهاية هذا الشهر، سوف يتم تقديم خطّة فرنسيّة ـــ ألمانيّة حول منطقة اليورو في المجلس الأوروبيّ...
(نعم) لكن عن أيّ صنف من الخطط نتحدّث؟ إنّها بناء ثقافيّ، ومع أنّ ذلك لا ينفي عنها الأهميّة، لكن ما الذي يُفترض أنّ تدعمه؟ توجد البنية الماليّة والميزانيّة في محور المشكلة، إلى أيّ درجة يمكن أن يصل التضامن فيهما؟ تخشى الدول الشماليّة شبح التحويلات الماليّة نحو الجنوب واقتراح ميزانية مشتركة يقول اقتصاديّون «ما بعد كينيزيّين» منذ سنوات إنّها أمر ضروريّ في ظلّ وجود عملة مشتركة. لا يذكر إيمانويل ماكرون الأرقام أبداً، وتشدّد أنجيلا ميركل على أصغر القواسم المشتركة، نحن بصدد العودة إلى موضوع اختلاف مستويات التنمية، إلى تقسيم أوروبا لمناطق تختصّ بأدوار اقتصاديّة مختلفة وتشمل مراكز لجذب الرساميل وأخرى للريع، وثالثة مخصّصة لعُطل البورجوازيّة الصغرى إلخ. من الضروريّ كشف نفاق البروباغندا القائلة بوجود دول أعضاء تخلق الثروة وأخرى تأخذها، وهو خطاب ناجح حتى الآن في الشمال، خاصّة في ألمانيا، لكن ليس فيها وحدها.

■ هل يجب جعل التفاوتات بين الدول والمواطنين مسألة مركزيّة حتى نصل إلى حلّ للأزمة؟
التفاوت في التنمية ومسألة العجز عن الحكم منتشران في كلّ أرجاء الاتحاد، ومن غير المعقول أنّ هذه الأزمة غير مطروحة للنقاش داخل البرلمان الأوروبيّ. لكن كما قلت سابقاً، أنا متشائم جداً: يمكن أن يتحوّل مثل هذا النقاش إلى مباراة للصراخ، خاصّة في ظلّ وجود القوى الشعبويّة النامية التي تستخدم حججاً شبيهة بالحجج الفاشيّة. أزمة أوروبا هي أيضاً أزمة جوهر ديموقراطيّ، وكلّما استمرت أكثر، صار النقاش الأوروبيّ الداخليّ أمراً مُتجنّباً.
على القوى التي تحاول إعادة بناء أفق يساريّ أوروبيّ نقل النقاش إلى العلن


يتحتّم على جميع القوى التي تحاول إعادة بناء أفق يساريّ أوروبيّ جامع نقل النقاش إلى العلن، لكن لم يعد يوجد يسار متناسق: في حال أراد اليسار إعادة بناء نفسه، يجب عليه منذ البداية طرح نفسه كيسار أوروبيّ، حتى يطلق نقاشاً سياسيّاً عابراً للحدود.
إحدى النتائج غير المقصودة لنموّ سلطة بروكسل التكنوقراطيّة، واحتكار السياسيّة من قبل الدول ـــ الأمم، هي انكفاء المواطنين نحو الداخل وانشغال كلّ بلد بنقاش مشاكله الخاصّة فقط، حتى صار الآن القاسم المشترك الأكبر بينها هو تصوّرها للقوميّة التي تُفهم على أنّها المصالح الوطنيّة التي يجب الدفاع عنها.

■ هل قصّة «سفينة أكواريوس» (للاجئين) هي أحدث تجسيد لهذا الصراع؟
بينما تتخفى خلف نقدها لـ«مجموعة دول فيشغراد» (هنغاريا، بولندا، تشيكيا، وسلوفاكيا)، تتبنى فرنسا، المملكة المتحدة، إيطاليا وبقيّة دول الاتحاد، سياسات منافقة وبغيضة. تمنع فرنسا المهاجرين من عبور حدودها مع إيطاليا، ويوجد عنف متواصل من كاليه إلى فينتيميغليا، وكُشفت في بريطانيا معلومات جديدة حول أهداف رفض أكبر عدد ممكن من المهاجرين عبر خلق «بيئة معادية» لهم. كيف يمكن للمرء أن يجد توازناً بين هذين الملمحين للمشكلة؟
من ناحية، يوجد الملمح العقلانيّ: إذا احتسبنا عدد المهاجرين، حتى في أسوأ السيناريوات، نجد أنّ المشكلة قابلة للحلّ، حيث توجد إمكانيّة لاستقبالهم في أوروبا. لا يمثّل الأمر «غزوة»، بل عدد الوافدين بالكاد يساوي 0.2 بالمئة من سكان الاتحاد الأوروبيّ. ويعني حسن الضيافة الإدماج، ويعيدنا ذلك إلى المسألة المجاليّة (المساحات الوطنية) والاختلافات في التنمية.
من ناحية ثانية، يوجد الملمح الأخلاقيّ: حاليّاً، صارت المشكلة في البحر الأبيض المتوسّط تكتسي أبعاد إبادة جماعيّة. هل توجد عبارة أخرى تصف ما يحدث؟ إنّه مسار صرنا جميعاً شركاء فيه بتأسيسنا نظاماً عنيفاً للإقصاء الجسديّ مبنياً على العرق. توجد إبادة جماعيّة تجري على حدودنا، ولدينا تقاليد يمكننا استعادتها لمقاومة هذا الانهيار الأخلاقيّ، من المسيحيّة إلى الكونيّة، كما يقترح بعض فقهاء القانون تضمين استقبال المهاجرين في صلب القانون الدوليّ. علاوة على ذلك، يجب علينا محاربة المنطق الاقتصاديّ النيو ـــ استعماريّ الذي ما زلنا نتّبعه، الاستغلال، الحروب التي نشارك فيها، وهي ما يدفع المهاجرين نحو المنفى.
■ من أين يجب أن نبدأ؟
توجد ثلاث مسائل يجب وضعها في محور النقاش: 1) دور أوروبا في العولمة، أي الاستفادة من وزنها لكبح الاستغلال المحليّ والتحرّك ضدّ الإغراق الاجتماعيّ والضريبيّ؛ 2) السياسات النيوليبراليّة، التي يجب أن تُعوَّض بأوروبا ذات توجّه اجتماعيّ؛ 3) ديموقراطيّة المؤسسات الأوروبيّة.
موضوع الديموقراطيّة التمثيليّة ليس هامشيّاً، ولم يتم التعامل معه قطّ على نحو نهائيّ. تتّسم جميع الدول اليوم باضطرابات في التمثيل السياسيّ ـــ وتكشف ما تسمى «ما بعد الديموقراطيّة» الهُوّة بين القوى الحقيقيّة والأخرى المرئيّة. لا يجب أن ننسى الحركات الاجتماعيّة، مع أنّها للأسف تتبنى اليوم في أفضل الأحوال موقفاً دفاعيّاً.
* عن النسخة الدوليّة لجريدة «إل مانيفستو» الإيطاليّة