أحيت قضيّة «سفينة أكواريوس» التي حملت على متنها 629 مهاجراً أنقذتهم في سلسلة عمليات خطرة قبالة سواحل ليبيا، التوترات حول سياسة أوروبا تجاه الهجرة. ورغم سماح إسبانيا أخيراً بدخول السفينة إلى موانئها، كاد رفض إيطاليا ومالطا استضافة السفينة الإنسانيّة (رغم تدهور الظروف الصحيّة على متنها) أن يتحوّل إلى أزمة دبلوماسيّة بين فرنسا وإيطاليا. أما الصحيفة الإلكترونيّة الإيطاليّة «لا نويفا بوسولا كوتيديانا»، المختصّة في شؤون الفاتيكان، فلم تجد حرجاً في نشر مقال يوم 12 حزيران يدين العمليّة باعتبارها مكيدة مصمّمة بدقّة لـ«اختبار» الحكومة الإيطاليّة الجديدة ووضع زعيم «الرابطة» (التي توصف بأنّها عنصريّة ومعادية للأجانب) ووزير الداخليّة ماتيو سلفيني في موقف صعب.تمثّل أزمة المهاجرين هذه علامة واضحة على تولي قوى اليمين المتطرف و«الشعبويّين» اليمينيّين دفّة إدارة الأمور. وقد قاد تآكل حزبي الحكم الكبيرين في إيطاليا (الحزب الديموقراطيّ بقيادة ماتيو رنزي، وحزب فورزا إيطاليا بقيادة سيلفيو برلسكوني)، اللذين توليا إدارة شؤون النخبة الاقتصاديّة المهيمنة لعقدين تبعاً لوصفات نيوليبراليّة (1990ـــ 2000) وسياسة تقشفيّة (بعد 2008)، وكذلك انهيار اليسار الإصلاحيّ، إلى صعود مقلق لقوى رجعيّة وعودة القوميّة المعاديّة للأجانب.
وإن كانت توجد خصوصيّات مختلفة بين أقصى اليمين واليمين الشعبويّ واليمين الراديكاليّ، واختلافات بين الملامح الأيديولوجيّة والسياسيّة للمرشحين وتشكيلاتهم السياسيّة، إلّا أنّ قواسم مشتركة تجمع بينها، وهي: ديماغوجيّة ارتكاسيّة، خطاب أمنيّ في مواجهة خطر الهجرة، ووصم «الغريب» على نحو ممنهج. ومن ضمن دوافع الصعود الانتخابيّ لهذه القوى في إيطاليا وفي الكثير من الدول الأوروبيّة الأخرى، أزمة القوى السياسيّة المتعوّدة للحكم والمنتمية إلى اليمين، وكذلك المنتمية إلى اليسار، والتي توقفت عن الإصغاء إلى القوى الاجتماعيّة وتمثيلها في المجال السياسيّ، والتي صارت منذ سنوات ناشطة ضمن المجال الانتخابيّ للمستثمرين الهوياتيّين، ما جعلها تتحدث بنفس خطاب أقصى اليمين حول قضايا مثل الهجرة والأمن.
وتعزّز أزمة التمثيل العميقة آثار إغراء تشكيلات اليمين المتطرّف التي تتبنى تقليديّاً خطاباً هوياتيّاً ـــ أمنيّاً. وبينما تقدم الأخيرة نفسها بوصفها أحزاباً «معادية للنظام»، تظهر في الحقيقة كتعبير عن أزمة النظام الرأسماليّ التي تمثّل ضمنها إعادة الهيكلة النيوليبراليّة وتطوّر المجتمعات في اتجاه حوكمة أمنيّة مطلقة ملمحاً مركزيّاً لشرعنة اليمين الشعبويّ والراديكاليّ وتجذّره انتخابيّاً بعيداً عن التصويت الاحتجاجيّ والعقابيّ.
في تأملاته حول «الأيديولوجيا الأمنيّة: من إدارة المخاطر إلى التحضّر للكوارث»، يشير الأنثروبولوجيّ برنار هورس إلى مركزيّة المهمّة الأمنيّة في الحوكمة «كاستعداد للقفز على التناقضات الكامنة أو إخفائها، متوّلد عن نظرة توحّد بين اليوتوبيا الرأسماليّة التي صارت واقعاً وهميّاً... ورؤية للعالم مختصرة في الإدارة التقنيّة للمخاطر، وهي أحد أبعاد المشروع الحضاريّ المركزيّ والوحيد اليوم: إعادة الإنتاج الهادئة للرأسماليّة بوصفها حضارة عالميّة».
خضوع النخب الحاكمة لمنطق السوق، والتواطؤ مع مصالح رأس المال العالميّ، حرم الأحزاب التقليديّة القدرة على أداء وظائف التوسّط وإعادة توزيع الموارد العموميّة، وتفضيلها قطع روابطها مع القواعد الاجتماعيّة، ولكن بخاصّة تخليها عن الحدود الأيديولوجيّة بين اليسار واليمين و«أقصى اليمين». كذلك ساهم تخلّي أحزاب اليسار المهيمنة عن الصراع ضدّ النيوليبراليّة وتعويضه بإصلاحات تحرريّة على المستوى الاجتماعيّ والثقافيّ بموازاة تبني خطاب هوياتيّ ـــ أمنيّ رافض الهجرة يتبناه اليمين أيضاً، في شرعنة الحلول التي ينادي بها «أقصى اليمين». فيما تقود مواضيع الأمن والهجرة المجالين الإعلاميّ والسياسيّ، تشعر الشرائح الانتخابيّة الخائبة الظنّ، والتي تعيش في قطيعة مع أحزاب اليمين واليسار، بالارتياح عند اختيارها المتطرفين، وهي تفضّل بلا شكّ الأصل على التقليد.