لندن | فرضت تظاهرة نهاية هذا الأسبوع التي نظمها اليمين الفاشستي البريطانيّ في قلب العاصمة لندن عقد المقارنات مع تظاهرة 9 آلاف من الفاشيست الإنكليز في شارع كيبل (شرق المدينة) عام 1936 والتي تصدى لها حينذاك 20 ألفاً جمعهم تحالف عريض من الشيوعيين والفوضويين والاشتراكيين والجمعيات اليهوديّة، اصطدموا في معركة شوارع قاسية مع المتظاهرين وقوات الشرطة التي كانت تحميهم ليصاب ويعتقل المئات قبل أن ينجحوا في كسر التظاهرة.تظاهرة عام 2018 نجحت في استدعاء أعداد أكبر من المتظاهرين (15 -20 ألفاً)، بينما تجمع أقل من ألف من المناهضين للفاشستيّة في التحرك المضاد وكادوا يتحولون إلى لقمة سائغة لهجمات عدوانيّة لولا تدخل الشرطة لحمايتهم.
عدد المتظاهرين، وعدوانيتهم الظاهرة وطبيعة الشعارات التي حملوها كما غياب مناهضة حقيقية للظاهرة الفاشستيّة في 2018 أقلّه مقارنة بجمهور شارع كيبل، حملت كلّها اشارت قاتمة ومقلقة في شأن تصاعد المدّ اليميني في العالم الغربي عموماً، وتعاظم العداء للأجانب - المسلمين منهم تحديداً -، وانتقال النزعات الفاشستيّة من مواقعها الهامشيّة في الشارع والسياسة بعد الحرب العالميّة الثانية إلى قلب الحدث. لكن الأخطر من ذلك كلّه أن تجمع الفاشيست الذي تلاقت أطرافه على القوميّة الإنكليزيّة والإسلاموفوبيا، لا يجد في مواجهته أي قوى حازمة: لا من الأحزاب التقليديّة في السلطة أو المعارضة على حد سواء، ولا بين قوى اليسار – المهمّش حد الانقراض – ناهيك عن أي تجمعات شعبيّة أو عماليّة.
التظاهرة مع ذلك – وبما حملته من إشارات - لم تكن حدثاً مفاجئاً لأحد. فموجة الانقسام السّياسي الحاد في بريطانيا بدأت في موازاة شعور بالصدمة وفقدان الثقة بالأحزاب الحاكمة النيوليبراليّة منها أو حتى الديموقراطيّة الاشتراكيّة الذي عمّ أوروبا إبّان الأزمة المالية العالميّة 2008، بعد أن توافقت الطبقات الحاكمة وقتها على إنقاذ البنوك واستثماراتها الفاشلة على حساب الطبقة العاملة ومن أموال دافعي الضرائب عبر برامج تقشف قاسية. وقد تسببت مشاعر الصدمة تلك في تصعيد نموذج جديد من السياسيين الشعبويين الذين نجحوا – مستفيدين من ضعف اليسار وانقساماته - في تحويل أنظار قطاع عريض من الطبقة العاملة الإنكليزيّة عن الحرب الطبقيّة التي هم ضحاياها إلى عدو آخر: الأجانب واللاجئين لا سيّما المسلمين منهم. بعض هؤلاء السياسيين انتظم في ما عرف بحزب الاستقلال البريطاني الذي ما لبث أن تحوّل في وقت قياسي إلى قوة ثالثة تحدّت ظاهرة الحزبين الكبيرين في السياسة البريطانية، فسيطر على عدد كبير من البلديات المحليّة ووصل ممثلوه إلى البرلمان، وكان القوّة الدافعة وراء تصويت 52 في المئة من البريطانيين لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء 2015.
الأحزاب اليساريّة والاشتراكيّة غير قادرة على استقطاب دعم شعبي ذي معنى


صعود اليمين البريطاني المتطرف رافقه صعود تيارات شعبوية موازية في أوروبا بغربها وشرقها، وهي جميعها تلقت دعماً هائلاً بانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة وتولي متطرفين من أقصى اليمين مفاتيح السلطة في الإمبراطوريّة العظمى. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد ثمّة ما يقف حائلاً دون قفز الأحزاب اليمينيّة على السلطة من خلال صناديق الاقتراع، الأمر الذي حدث بالفعل في غير بلد أوروبي كان آخرها إيطاليا. ما منع تكرار ذلك السيناريو حتى الآن في بريطانيا كان رجلاً واحداً: جيريمي كوربن زعيم حزب العمال المعارض، والذي على رغم تحالف الطبقة المهيمنة مع بقايا تيار توني بلير داخل حزبه لمحاولة اسقاطه إلا أنّه نجح في تقديم بديل مقنع سواء لناحية أخلاقياته السياسيّة أو برنامجه الحزبي المضاد للتقشف، وأصبح بمثابة المرشح الأقوى لتولي رئاسة الوزراء حال فقدان المحافظين لغالبيتهم الهشّة في أية لحظة.
ظاهرة كوربن تسببت في النهاية – توازياً مع انكشاف دجل سياسيي «البريكست» - في انفجار فقاعة حزب الاستقلال البريطاني وخسارته لمعظم مقاعده سواء في البلديات أو في البرلمان. لكن سقوط الحزب في صناديق الانتخاب لم يعن انتهاء الظاهرة الفاشستيّة، بل هي تحولت الآن إلى حراك شارعي منفعل، نجح سياسي متطرّف مثل تومي روبنسون – المسجون بتهمة الإساءة للمحكمة – في توحيده كما في تظاهرة السبت وإطلاقه إلى العلن. وهو حراك يهدد بمزيد من الاستقطاب الحاد في الشارع البريطاني، ونقلاً للصراع من لعبة الصناديق الانتخابيّة إلى الشوارع. ولا تمتلك بريطانيا بتاريخها الإمبريالي وماضيها العنصري مناعة لعدم الوقوع في براثن الفاشستيّة، وهي التي كانت ملكتها نفسها ترفع يديها بتحية النازيين قبل أن تتحول أقدار السياسة وتنقلب نخبة بريطانيا ضدهم في الحرب العالمية الثانية بحثاً عن مصالحها الإمبراطوريّة، في ذات الوقت الذي لا تبدو فيه أي من القوى بقادرة على المبادرة في الاتجاه الآخر.
فحزب السلطة – المحافظون – يمتلك غالبيّة هشّة في البرلمان مستمدة أصلاً من قاعدة شعبيّة مشتركة مع الكتل اليمينيّة المتطرفة، وحكومته بقيادة تيريزا ماي تبدو في غاية الهزال لمواجهة استحقاقات استراتيجيّة في الشأن الاقتصادي والسياسي معاً، ليست أقلها المفاوضات الشاقة مع الاتحاد الأوروبي ناهيك عن إمكان الحصول على تأييد شعبي واسع لمواجهة الاستقطابات بسبب سياسات التقشف التي انهكت الطبقة العاملة.
كذلك فإن حزب العمال المعارض يبدو وكأنّه قد استنفذ الظاهرة الكوربينيّة إلى أقصاها وتورط في لعبة انتظار سقوط الحكومة أو الوصول إلى انتخابات عامة عاديّة في 2022 قد تحمله نظريّاً إلى السلطة. كما أن يمين الحزب (أنصار توني بلير) ما زال على رغم هزائمه المتكررة أمام كوربن قادراً على إثارة المشاكل له في كل استحقاق سياسي أو انتخابي مقبل، وهم بالفعل يستهلكون جزءاً كبيراً من طاقة الحزب على مواجهة المحافظين.
الأحزاب اليساريّة والاشتراكيّة البريطانيّة جميعها غير قادرة على استقطاب دعم شعبي ذي معنى سواء في الشارع أو في صناديق الاقتراع، وهي على كثرة دكاكينها ليست موحدة التوجهات، وتكتفي غالباً بالتصارع في ما بينها على مسائل تاريخيّة تتعلق بستالين وتروتسكي أو في تفسير صعود شعبيّة الزعيم كوربن، ولا ينجح أي منها في جمع أكثر من عدة مئات من المشاركين في نشاطاتها المختلفة معظمها من الوجوه اليساريّة المعتقة ذاتها.
في ظل تخاذل كل هذه القنوات السياسيّة الفاعلة في مواجهة الفاشيست، فإن آخر خط دفاع لن يكون حتماً سوى الطبقة العاملة البريطانيّة وفقراء الشعب الذين ستعيّن عليهم أن يرسلوا للفاشيست وللسياسيين الغافلين معاً رسالة واضحة في شأن موقفهم تجاه هذه الظاهرة قبل أن تتوسع وتمسك بزمام السلطة في البلاد. ولعل التظاهرة المخطط لها في 13 تموز/ يوليو المقبل تزامناً مع زيارة ترامب للندن تكون آخر فرصة لها لإظهار انحيازها الحاسم ضد الهيمنة والغزو وحروب الهويّات المتخيلة وصعود الفاشيست. قد فعلها البريطانيّون يوم خرجوا في أكبر تظاهرة في تاريخ البلاد ضد اشتراك حكومة توني بلير بالتخطيط للحرب على العراق، وهم مدعوون اليوم من جديد لتولي قيادة المواجهة، وبغير ذلك فإن الجزيرة البريطانيّة ستغرق في الأزمنة المظلمة، وهي الأوقات التي قال لنا غرامشي قبل ثمانين عاماً أنها تُخرج الوحوش من أوكارها عندما يموت نظام قديم بينما تتأخر ولادة نظام جديد. لقد شوهدت هذه الوحوش وهي تتظاهر السبت الماضي في قلب لندن.