تجيد أذربيجان لعبة التوازنات الجيوسياسية. هذه المهارة المكتسبة جعلت نظام إلهام علييف، وقبله والده حيدر علييف، يحظى بما يمكن تسميته «حصانةً دوليةً» تجاه الكثير من الأزمات السياسية التي عصفت بمنطقة القوقاز وآسيا الوسطى خلال العقود الثلاثة الماضية، لا سيما «الثورات الملوّنة» التي اجتاحت دول الجوار الروسي منذ مطلع الألفية الحالية، وهي الحصانة ذاتها التي حيّدت النمو الاقتصادي في هذه الجمهورية السوفياتية السابقة، وإن نسبياً، عن الصراع المزمن مع أرمينيا على إقليم ناغورنو قره باخ.بالنسبة إلى أذربيجان، تكمن نقطة الارتكاز في تأمين ذلك الـ«ستاتيكو» الصعب، في ما أسماه أحد الأوروبيين ذات مرّة بـ«لعبة البوكر» الجيوسياسية، وميدانها الأساس هو قطاع الطاقة، باعتباره المحدّد لمجمل السياسات الخارجية المتّبعة، والذي مكّنها من تثبيت توازن دقيق بين لاعبين دوليين وإقليميين كبار، ذوي مصالح متناقضة، وأتاح لها فرصة المواءمة بين تلبية المصالح الغربية، ومراعاة الهواجس الروسية، والحفاظ على هويتها «التركية»، وضمان استقرار علاقاتها مع الجوار القزويني.



بالأمس، خطت أذربيجان خطوة جديدة ضمن هذا المسار الطويل، فبعد 13 عاماً على بدء تشغيل خط أنابيب باكو - تبليسي - جيهان النفطي (أيار 2006)، دشن الرئيس إلهام علييف «ممر الغاز الجنوبي»، الذي يشكّل اختباراً جديداً لنظامه، خصوصاً في ظل أجواء التوتر المخيّمة على المشهد الدولي، وانعكاساتها الاقتصادية المحتملة، في إطار القواعد الجديدة التي باتت تحكم العلاقات المعقّدة بين روسيا والغرب عموماً، والأوروبيين خصوصاً.
ثمة معادلة ثابتة تدور حولها السياسات الأذرية: الانفتاح على الغرب وتجنّب عضب روسيا. تلك المعادلة عبّر عنها الهام علييف في شكل صريح، أول من أمس، خلال تدشين المرحلة الأولى من «الممر الجنوبي» في محطة سانغاشال حين قال: «لو لم يتم تحقيق توازن في المصالح، لما كان المشروع موجوداً».
الرئيس الأذري أقرّ بوجود دعم سياسي واقتصادي لـ«الممر الجنوبي» توافر من جانب بلدان عدّة، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين كانتا حاضرتين، عبر ممثليهما الرسميين، في حفل افتتاح المرحلة الأولى من المشروع الجديد، الذي تشارك فيه، إلى جانب أذربيجان، ستّ دول هي جورجيا وتركيا وبلغاريا واليونان وألبانيا وإيطاليا، ويتوقع أن تنضم إليها، في حال نجاح مفاوضات المرحلة الثانية، ثلاث دول في البلقان هي البوسنة والهرسك وكرواتيا والجبل الأسود.
يمكن فهم الارتياح الأذري تجاه الجدوى الاقتصادية والسياسية لـ«الممر الجنوبي»، بالنظر إلى إطاره العام، فالمشروع يحظى بدعم غربي مباشر، إذ يرى فيه الأوروبيون فرصة لكسر الاحتكار الروسي في مجال إمدادات الطاقة إلى أوروبا، في حين أنه لا يثير، على الجهة المقابلة، أيّة تحفظات من جانب روسيا، التي يمكنها التعويل على الشراكة مع أذربيجان للتخفيف من التداعيات التنافسية المحتملة... أقلّه على المدى المنظور.
ويتكون مشروع «الممر الجنوبي» من ثلاثة أجزاء: خط أنابيب غاز جنوب القوقاز (باكو - تبليسي – أرضروم)، الذي يمتد بين أذربيجان والحدود التركية، عبر الأراضي الجورجية؛ وخط أنابيب عبر الأناضول، الذي يمر عبر أراضي تركيا؛ وخط أنابيب عبر الأدرياتيكي، الذي يمر عبر أراضي اليونان وألبانيا، ليصل إلى محطة الاستيراد الأخيرة في إيطاليا.
الروس وضعوا أقدامهم مسبقاً في الممر الجنوبي، تماماً كالغربيين


وبذلك سيمتد «الممر الجنوبي»، الذي تقدّر تكلفته بنحو 40 مليار دولار، على مسافة ثلاثة آلاف و500 كليومتر، من باكو إلى جنوب إيطاليا.
ووفق الخطة المقررة، سيورد «الممر الجنوبي» نحو ستة مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً إلى تركيا كمرحلة أولى، وبحلول الربع الأول من العام 2020 سيكون قادراً على توريد عشرة مليارات متر مكعب إضافية من الغاز سنوياً إلى أوروبا، على أن يرتفع حجم الواردات بحلول عام 2016 إلى نحو 31.5 مليار مكعب.
وسينقل «الممر الجنوبي»، وفق الخطة، الغاز الطبيعي من حقل شاه دنيز العملاق في بحر قزوين (الذي تقدر احتياطاته بـ1.2 تريليون متر مكعب)، مع احتمال إشراك مورّدين آخرين، كتركمانستان (باحتياطات مقدرة بنحو 34 تريليون متر مكعب) وإيران (باحتياطات مقدرة بنحو 10 تريليونات متر مكعب).
علاوة على ما سبق، فإنّ وزير الطاقة الأذري ناتيغ علييف سبق أن أشار، قبل نحو سنة، إلى أن أذربيجان وتركيا على استعداد لاستخدام «الممر الجنوبي» لنقل الغاز من العراق وإسرائيل وقبرص، وهو ما أكدته تل أبيب وأنقرة، قبل فترة، حين تحدثتا عن إمكانية بناء خط تصدير يربط حقل الغاز الإسرائيلي «لفيتان» بخط أنابيب «تاناب».
في هذه الحالة، سيتمكن شركاء أذربيجان من توفير ما يصل إلى 60 مليار متر مكعب سنوياً من الغاز عبر هذا الطريق، وفق ما يقول فيتالي بغلياربيكوف، نائب رئيس شركة النفط الوطنية الحكومية الأذرية («سوكار») لشؤون الاستثمار والتسويق.
الغربيون عموماً، والأوروبيون في شكل خاص، لم يخفوا ارتياحهم، لا بل حماستهم للمشروع الأذري، لا بل أن الاتحاد الأوروبي وضع ثقله لضمان بناء خط الأنابيب الجديد في أسرع وقت ممكن، وهو ما تبدّى، على سبيل المثال في قرار المفوضية الأوروبية استثنائه من ضوابط «حزمة الطاقة الثالثة»، التي تحظر على منتجي الغاز السيطرة على خط الأنابيب بنسبة مئة في المئة، وبالتالي فقد تمّ السماح لشركة «سوكار» بالاستحواذ الكامل على حصة ملء «الممر الجنوبي».
تلك الحماسة الغربية تبدو مفهومة، بطبيعة الحال، فثمة قلق دائم لدى الأوروبيين من فكرة احتكار روسيا لسوق تصدير النفط، على نحو يجعل تصريحاً صحافياً مقتضباً يصدر على لسان أحد مسؤولي «غازبروم» الروسية، كافياً لجعلهم يشعرون بالبرد، حتى في فصل الصيف، ويدفع بمؤشرات أسعار الطاقة إلى مسار تصاعدي حاد، خصوصاً إذا ما ارتبطت تصريحات كهذه بأجواء توتر سياسي مع موسكو.
على هذا الأساس، تهافتت شركات الطاقة الأوروبية على شراء الغاز من «الممر الجنوبي»، وقد بلغ عددها حتى الآن تسع شركات، هي «شل» (بريطانيا – هولندا)، «بلغارغاز» (بلغاريا)، «ديبا» (اليونان)، «يونيبر» (ألمانيا)، «انجي» (فرنسا)، «أكسبو» (سويسرا)، إلى جانب «هيرا» و«ايديسون» و«اينيل» (إيطاليا).



ويأمل الأوروبيون في أن يؤدي كسر الاحتكار الروسي لإمدادات الطاقة إلى حدوث انخفاض في أسعار الغاز، وهو أمرٌ بات موضع إجماع المحللين الاقتصاديين، وسط توقعات بارتفاع حجم الصادرات بمعدّل الضعف ونصفه بحلول عام 2024، بحسب ما نقلت نشرة «آر بي كا» الروسية عن الأمين العام لمنتدى مصدّري الغاز يوري سينيورين، الذي شغل في السابق منصب نائب وزير الطاقة في روسيا.
لعلّ هذا يؤكد ما قاله إلهام علييف، في حفل التدشين، من أن أوروبا هي «السوق الأكثر جاذبية لنا»، من دون أن يفوّت الفرصة لطمأنة اللاعبين الآخرين، حين أشار إلى أن المشروع الجديد «يأخذ في الحسبان مصالح الجميع... من مورّدي الغاز ودول الترانزيت إلى المستهلكين».
هذا التأكيد كان ضرورياً، على ما يبدو، في ظل المخاوف من أن يؤدي «الممر الجنوبي» إلى مزاحمة مشروع «تورك ستريم» المشترك بين روسيا وتركيا، الذي سيورّد خطه الأول 15.75 مليار متر مكعب سوياً من الغاز الطبيعي للمستهلكين الأتراك، وسينقل الكمية ذاتها، في مرحلة لاحقة، إلى جنوب أوروبا.
حتى الآن، لم يبد المسؤولون الروس أيّة مخاوف جدّية من التأثير التنافسي للمشروع الأذري، لا بل أن بعضهم يتحدث عن تأثير إيجابي. الفكرة بكل بساطة، بالنسبة إلى الروس، أن «الممر الجنوبي» سيكون مخصصاً لنقل الغاز من حقول أذربيجان، وبكميات محدودة (10 مليارات متر مكعب سنوياً إلى أوروبا، و6 مليارات متر مكعب سنوياً إلى تركيا)، مقارنة بالحجم الهائل لصادرات الغاز الروسي (194.4 مليار متر مكعب سنوياً).
يضاف إلى ما سبق أن التوقعات في سوق الطاقة، تشير إلى أن استهلاك الغاز في أوروبا سيرتفع من 541 مليار متر مكعب سنوياً إلى نحو 546 – 572 مليار متر مكعب سنوياً بحلول عام 2035، وهو مسار ترصده «غازبروم» الروسية، التي ارتفعت حصتها في السوق الأوروبية من 33.1 إلى 34.7 في المئة عام 2017، وهي تتوقع نمو تلك الحصة إلى ما بين 35 و38 في المئة بحلول عام 2030.
وعلى هذا الأساس، فإن المحللين الروس، وعلى رغم توقعاتهم باحتمال انخفاض أسعار الغاز في أوروبا إلى نسب تتراوح بين 3 و5 في المئة خلال السنوات المقبلة، إلا أنهم ينفون أي تأثير كبير على «غازبروم»، خصوصاً أن ثمة عنصراً تجارياً لا يمكن تجاهله في هذا السياق، وهي التفاوت بين تكلفة الانتاج بين «شاه دنيز» (35 دولاراً لكل ألف متر مكعب) وحقول «غازبروم» (15 دولاراً لكل ألف برميل مكعب)، ما يجعل الشركة الروسية أكثر قدرة على المنافسة.
علاوة على ما سبق، فإنّ الروس وضعوا أقدامهم مسبقاً في «الممر الجنوبي»، تماماً كالغربيين، فكما أن شركة «بي بي» البريطانية قد باتت المشغل الفني للمشروع (بحصة 28.25 في المئة)، فإنّ «لوكويل» حاضرة بدورها من المشغل التجاري («سوكار»)، الذي تستحوذ الشركة الروسية على نسبة من حصته، علاوة على مشاركتها في تطوير حقل شاه دنيز.
ومع ذلك، فإنّ ثمة ثغرة أساسية ربما يتحسّب إليها الروس، وهي تتعلق بإمكانية انضمام تركمانستان إلى المشروع الأذري، على النحو الذي يجعله منافساً جدّياً لـ«غازبروم» في تركيا وأوروبا. ومع ذلك، فإنّ سيناريو كهذا دونه صعوبات عدّة، لعلّ أبرزها الوضعية السياسية في منطقة بحر قزوين، الذي يجعل دولة من تركمانستان غير مستعدة لإثارة حفيظة الجار/ الشريك الروسي.
علاوة على أن ذلك قد يشكل استدارة خطيرة للمقاربة «البراغماتية» التي ينتهجها إلهام علييف، الذي يبدو أكثر تفضيلاً إلى الحفاظ على ذلك «الستاتيكو» المعتمد منذ ثلاثة عقود، على النحو الذي يستطيع من خلاله ضمان الأهمية الاستراتيجية لأذربيجان، ليس كدولة مصدّرة للغاز فحسب، وإنما كنقطة التقاء لمشاريع الطاقة في القوقاز وآسيا الوسطى، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق في حال اختار التخلي عن سياسة «إرضاء الجميع»، التي تبدو باكو حريصة على استمرارها، طالما أن المعادلات الدولية القائمة لم تصل بعد إلى المرحلة التي قد تفرض عليها خيارات أخرى لا إرادية.